مراجعة الذات فى (أبو زعبل 89) - سيد محمود - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 2:34 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مراجعة الذات فى (أبو زعبل 89)

نشر فى : الثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 7:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 19 نوفمبر 2024 - 7:55 م

أنظر للنجاح الجماهيرى الكبير الذى تحقق لفيلم (أبو زعبل 89) خلال عرضه بمهرجان القاهرة السينمائى بوصفه انتصارا شخصيا لى، ولذاكرتى التى ارتبطت بأبطاله الحقيقيين محمود مرتضى وفردوس بهنسى ومخرجه بسام مرتضى منذ 89 وإلى الآن.

 كما يمثل العام نفسه حدثا فارقا فى حياتى، فقد كان العام الثانى لى داخل جامعة القاهرة وبفضل من تعرفت عليهم من الأصدقاء هناك تغير وعيى تغييرا كاملا واختلفت نظرتى للفن وللواقع بطريقة جعلتنى أنظر إلى حلوان التى ولدت وعشت فيها بطريقة مختلفة.

 انعكست واقعة اعتقال عمال الحديد والصلب على الخريطة السياسية هناك لعدة سنوات بعدها، كما كان الموقف من واقعة الاعتقال ذاتها معيارا من معايير الفرز والتصويت للمرشحين هناك فى أية انتخابات.

ودون مبالغة من أى نوع، فقد ولد عالم جديد بعد تلك الأحداث وكان أقرب صديقين لى محمد عبد العاطى وعماد الدين يوسف من سكان منطقة التبين وعلى صلة مباشرة بالمصنع وعماله وعلى بينة كاملة بما جرى، لذلك أنفقنا سهرات طويلة فى جلسات على النيل تحت كوبرى المرازيق امتدت حتى ساعات الصباح الأولى نفكر فيما فعله هؤلاء العمال والأثمان التى دفعوها لتعزيز إيمانهم بالناس وحقوقها.

 ومن يومها بدأ تعلقنا بكتابات محمد السيد سعيد الذى كاد أن يروح ضحية التعذيب فى تلك التجربة المريرة لولا تدخل النقيب الراحل مكرم محمد أحمد لإنقاذه.

عقب التخرج بأيام تعرفت على العزيزة فردوس بهنسى فى واحدة من ندوات مركز معا لدراسات المرأة واكتشفت أنها جارة لى فى حلوان وأن منزلها على بُعد خطوات من بيتى عدنا من تلك الندوة معا وفى اللقاء التالى عند محطة المترو تعرفت معها على زوجها محمود مرتضى وكان ابنهما بسام لا يزال طفلا مرحا يدخل البهجة على قلب من يراه ولا يزال يفعل ذلك إلى الآن.

من الطريف حقا أننى انتقلت على امتداد سنوات بين عدة أحياء سكنية وفى كل سكن كنت أحتفظ بجيرة فرد من أفراد هذه العائلة الجميلة.

مرت الأيام وأصبح بسام مرتضى جارا عزيزا ومخرجا سينمائيا حوَّل قصة عائلته إلى موضوع لفيلم فريد من نوعه بالطريقة التى تحدث عنها أندريه تاركوفسكى فى كتابه (النحت فى الزمن) فكل عمل فنى جميل يولد من نضال الفنان للتعبير عن مثله الأخلاقية، وإذا كان الفنان جادًا فى سعيه نحو تعزيز قيمة الحياة، لن تكون هناك خطورة فى مرور صورة الواقع عبر «فلتر» مفاهيمه الذاتية نظرًا لأن عمله سوف يكون دائمًا محاولة روحية تتوق إلى جعل الإنسان أكثر كمالا.

منذ اختراعها أتاحت السينما أمام الفنان وسيلة للإمساك بالزمن وأصبح فى الإمكان نسخ ذلك الزمن على الشاشة متى ما شاء المرء أن يكرره ويعود إليه مرة أخرى تأكيدًا لهويته الذاتية.

 عند لحظة فارقة من حياته رأى بسام مرتضى أن والدته التى أفنت حياتها من أجله ومن أجل شقيقه على وشك الاحتضار وشعر بضرورة أن يمنحها الفرصة لتحكى أمام الكاميرا عما عاشته من أزمات وتجارب، طرحت الأم بشجاعة بالغة ووعى حاد تساؤلاتها العالقة أملا فى أن تذهب إلى رحلتها الأخيرة وقد تخففت من أعباء المسئولية وبلغت لحظة الغفران.

يشبّه تاركوفسكى المتفرج فى صالة العرض بالباحث عن «الزمن المفقود» ويعرّف الصورة السينمائية بأنها هى أساسا رصد لوقائع الحياة داخل الزمن. ويتساءل عن طبيعة عمل المخرج، مؤكدا أن هذا العمل هو «النحت فى الزمن» فما يفعله صانع الفيلم شبيه تماما بما يفعله النحات الفارق يكمن فى طبيعة المادة الخام فقط.

حول بسام مرتضى حياة العائلة وجروحها العميقة إلى مادة خام واجه معها تحديات بناء فيلم، فقد كانت زيارته لوالده فى المعتقل معلقة فى روحه لا تزال، لكنه راكم الكثير من المعانى إزاء تلك اللحظة الفارقة وتعامل معها بكثير من الدفء والحساسية الفنية مع قدر عالٍ من الرهافة، كما تمكن من اقتناص أحاسيس مربكة لكل أطراف العائلة ودوائر الأصدقاء ساعيا للكشف عن الأسباب التى أدت إلى انفصال الزوجين بعد تجربة حب ونضال مشترك وهكذا جعل الحدث السياسى فى خلفية الصورة لكنه لم يغيبه أبدا.

 لم يسع بسام إلى إجراء محاكمات لأى فرد، بل أظهر أكبر قدر ممكن من تبجيل الضعف الإنسانى، وقاده وعيه المتميز لمد الخط على استقامته والانشغال بمراجعة التجربة سواء تعلقت بالذات الفردية أو بالجيل الذى واجه عبد الناصر وأنور السادات، جيل السبعينيات الذى أطل من وجوهه على الشاشة وجهين نبيلين هما رياض رفعت وصابر بركات ولم تكن تلك الإطلالة تحية من المخرج لقيمة الصداقة فقط وإنما للتحرر من الذاتى والانطلاق إلى الموضوعى أيضا.

أبدع بسام كذلك فى تحقيق رغبة قديمة لوالده تتمثل فى الاستماع إلى حكاية صاغها الفنان الكبير سيد رجب الذى كان من بين المعتقلين لكن الظروف لم تسمح لمحمود مرتضى أن يستمع للحكاية من صديقه الذى أصبح نجمًا.

نجح المخرج فى تحقيق رغبة والده وتمكن من بناء مشاهد كانت أقرب إلى ومضة جمالية، ولحظة إشراق من زمن غامض احتفظ بجلال خاص.    

أتوقع أن يواصل الفيلم نجاحه بعد مهرجان القاهرة السينمائى وأن يمثل درسًا سينمائيًا فى الإخلاص وطموحات المخرجين عمل توليف ذكى من المواد والأرشيفات المتعددة وتحويلها إلى نسيج حى ومتناغم وحياة غنية على الشاشة.