دخلت سجن استقبال طرة فى يوم جمعة بعد رحلة مضنية من سوهاج للقاهرة بدأت بعلقة وداع وانتهت بحفلة استقبال.. إنها طقوس مقدسة.
حمدت الله بعدها أننى قدمت يوم الجمعة حيث أكثر المخبرين إجازة.. وما أدراك بالمخبرين!!!.. انتهت العلقة وأخذنى الرائد حسام ليوصلنى إلى غرفتى.. طلبت منه جرعة ماء.. فإذا به يحضر لى ماء مثلجا.. ظللت أذكر له هذا الفضل.. أصبح بعد سنوات مأمورا للسجن.. اشتبك معه بعض الإخوة وأساءوا إليه دافعت عنه دفاعا مستميتا فقد كان رجلا شريفا ونظيفا وشهما طوال خدمته.. ولا أدرى هل هو حى يرزق فيقرأ كلماتى أم واراه الثرى؟
قلت له فى همس: ما هى أخبار التعذيب؟
قال: لقد خف كثيرا.. كان منذ فترة «التعذيب للتعذيب».. واليوم «التعذيب للمعلومة فقط».
دخلت زنزانتى.. وبعدها بقليل سمعت صوتا رائعا قويا يصدح بأذان العصر.. هزنى الأذان وكأننى أسمعه لأول مرة.. سبحان الله ما أجمل هذا الصوت الملائكى.. كلمات الأذان ونغمات المؤذن قذفت السكينة فى قلبى وبددت مخاوفه.
قلت لنفسى: من صاحب هذا الصوت؟.. مرت الأيام وانفتحت الزنازين فتعرفت على صاحب أجمل صوت سمعناه.. إنه حسن شنن وشهرته عباس شنن.. كان فى غاية الوسامة شكلا والرقة والأدب جوهرا.. كان يحفظ كل الأناشيد الإسلامية.. صوته لا يحتاج لموسيقى أو عود وكمان.. إنه يحوى كل هذه الآلات والمقامات.
كم ودع شنن المفرج عنهم بأناشيده الرائعة.. وأسعدنا فى الأعياد والاحتفالات والروضات التى كنا نقيمها فى السجن.
لقد اعتبرنا السجن بيتنا الكبير الذى حوى أفراحنا وأحزاننا.. وضحكنا وبكاءنا وسعادتنا وقهرنا.. ففيه الأبيض والأسود.. والراحة والشقاء.. إنه كالحياة لا يسير على وتيرة واحدة.. ولكن أزمته الكبرى هى أن كل حياة السجين بيد سجانه.. طعامه وشرابه وزيارته وكتبه وعلاجه وفسحته.. و«أنت وحظك وظروف حركتك وسياسة دولتك معها وسياستك مع الدولة».
تصادقت مع شنن وأحببته.. كتب عنى شعرا ضاع منى.. رأيت فيه الرقة والعطف والحنان.. لكن كيف دخل إلى هذا الطريق.. هذه قصة تطول.. ولكن الأقدار ساقته كما ساقت غيره إلى طريق قد لا يناسبهم.
كان فى جماعة الجهاد وكنت فى الجماعة الإسلامية.. اتفقتا واختلفتا.. توحدتا وانفصلتا.. تشاجرتا واصطلحتا.. كل ذلك ومحبتى لشنن تزداد مع الأيام وصوته يشجينى بأروع المعانى.
شجعته كثيرا على استكمال تعليمه.. بدأ يستكمل تعليمه فوجد أنه لابد أن يبدأ من الثانوية فالحقوق.. ثم دبلومات عليا فالماجستير.. مكث طويلا فى السجن انتهت مدة حكمه القانونية فانتقل منها كغيره إلى سجون المعتقلين وهى أسوأ من سجننا.. لم تكن المبادرة قد بدأت.. فكل من ينتهى حكمه يعتقل.
طال سجن الرجل.. مات والده المريض بالسرطان.. والذى كان من قراء القرآن المشهورين.. ثم ماتت أمه.
السنوات تمر بطيئة يجر بعضها بعضا.. خرج إلى الحرية بعد قرابة 26 عاما.. لم تفارق الابتسامة شفتيه.. ودع الأحقاد والضغائن.. شنن كان لا يكره أحدا حتى الذين ظلموه أو قسوا عليه.. عرف أن نفثات الانتقام والكراهية تضر صاحبها قبل غيره.
تزوج أرملة صديقه الذى توفى فى السجن بسرطان الدم واحتضن أولادهما.. أصيبت هى بعد ذلك بالسرطان ثم ماتت وتركت له بعض الأولاد.. لم يجد بدا من الزواج مرة أخرى فقد سئم حياة الوحدة.
بدأ التحضير للدكتوراة فى السجن.. تشجع له بعد خروجه العالم الكبير د/ عبدالعزيز سمك أستاذ الشريعة، وأشرف على رسالته، واصل الليل بالنهار.. كانت المصادر فى السجن نادرة وكانت الجيوب فيه وبعده خاوية والأسر منهكة اقتصاديا.
ومنذ أيام كان موعد د/ شنن للحصول على الدكتوراة فى الحقوق بامتياز مع مرتبة الشرف مع التوصية بطبع الرسالة.. وذلك بعد أن عصره المناقشون عصرا.. فقد سدد له د/ العوا لكمات خطافية علمية.. وأبدع فى بيان أخطاء كثيرة للرسالة.. ثم استلمه رئيس قسم الشريعة بحقوق حلوان العلامة د/ رشدى شحاتة وهو عالم فذ لم ينل حظه من الشهرة والشيوع.. ولكنها مصر التى قتلت من قبل علم الليث بن سعد الذى كان أفقه من مالك.
ولكن د/ عبدالعزيز سمك بخلقه وحيائه ترفق بشنن ومدح اجتهاده كثيرا قبل أن يسدد له بعض اللكمات الفكرية والشرعية.. وهكذا حصل شنن على بغيته وقد شارف على الستين.. تأملته وهو يعيش تلك اللحظة التى كان يرجوها منذ سنوات طويلة «الحرية والأسرة والدكتوراة».. مازال كما هو «قلب طفل سكن فى جسد شيخ».
تذكرت يومها أول أذان فى يوم دخولى السجن.. هكذا الدنيا يزول ألمها ويبقى أملها.. ويذهب عسرها القليل ويبقى يسرها الكثير.. ولن يغلب عسر يسرين، كما قال ابن مسعود.. «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا».