حفاظا على ما حققته خلال سنوات العمر من علم ومعرفة، قررت مؤخرا إعادة النظر فى علاقتى ببرامج التليفزيون، مفضلا أن أخصص لمشاهدة الأفلام المصرية القديمة وقتا أطول من الوقت الذى خصصناه على مدى ثلاث سنوات للبرامج الإخبارية. اقتنع آخرون بالتجربة. وعند التقييم اكتشفنا اننا أصبحنا أهدأ طباعا وأدق فى تحليل أوضاع البلد وأكثر قدرة على استشراف المستقبل.
تصادف، مع ممارستنا تجربة التفلت من براثن برامج الكلام والأخبار والنميمة والشائعات، أن قررت دول عديدة منها البرازيل وفرنسا والأرجنتين، دراسة امكانية فك ارتباطها بشبكة الإنترنت العالمية التى تهيمن عليها الولايات المتحدة. حدث هذا كرد فعل مبكر على اكتشاف تورط واشنطن فى استخدام الانترنت للتنصت على بلايين المكالمات على الهواتف المحمولة وغيرها من وسائط التواصل الحديثة. اشفقت على ملايين «المتواصلين» فى شتى أنحاء العالم من عواقب نشوب حروب «استقلال» جديدة هدفها هذه المرة تحرير الإنترنت من قبضة الإمبريالية الأمريكية.
سبب إشفاقى هو أن حرب الإنترنت قد تحرم هذه الملايين من البشر، ولو لفترة من مصدر للتسلية وقضاء الوقت لم يأت الزمان بمثله. تعددت وسائل التسلية عبر الثقافات والعصور. تسلينا بحواديت الأساطير والعفاريت والجن وعرائس البحر وبألعاب الورق والنرد وبأحاديث النميمة وبالموسيقى والغناء وبالجلوس على المقاهى. تسلينا بالمشى على رصيف الكورنيش والتسكع فى شوارع وسط المدينة. وتسلينا بالأكل والشرب وكتابة الشعر ورسائل العشق والغرام وبممارسة الرياضة. لا شك أن الإنسان خلال مسيرته الطويلة قد أبدع فى ابتكار ما يسليه ويقضى به على ملل يومه وليله. أتصور، مع ذلك، أنه لم يبدع فى أى عصر كما أبدع حين سخر الإنترنت لتسليته.
سمعت من ينصح بعدم التوسع فى تزويد مدارس القرى، وبخاصة فى المناطق النائية، بأجهزة كمبيوتر ووسائط اتصال الكترونية. يبدو أنهم خافوا أن ينبذ الصغار ومدرسوهم العلم والتعلم ويكتفون بالتسلية وقضاء الوقت مع هذا الوافد الجديد مصطحبا معه عوالم أخرى. لهؤلاء، وهم كثيرون، أقول بئس رجل علم أو دين نبذ التسلية أو كفر بها أو تعالى عليها مكتفيا بعلمه أو مستزيدا. وأقول، لا مدخل للتنمية بجميع أفرعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية أفضل من مدخل التسلية. المهم أولا للأطفال والشباب فى سن المراهقة أن يتسلوا، ومن باب التسلية الإلكترونية سيدلفون هم أنفسهم إلى آفاق التنمية والتقدم.
إن نسيت وما أكثر ما نسيت، فلن أنسى قولا غير صحيح لرجل فاضل حث فيه الحكومة على رفض تزويد القرى المصرية بالكهرباء خشية « أن يتسلى الفلاح فيهمل زرعه وضرعه». لا أحد فى هذا الزمن يستطيع أن ينكر فضل الكهرباء على ما وصل إليه الفلاح المصرى من تقدم فى الوعى والمأكل والتعليم بل والملبس. لقد اختفت «الجلابية الزرقاء»، أو «جلابية كل العصور» كما وصفها بعض علماء الانثروبولوجيا ومؤرخى مصر. الفضل يعود أولا إلى الكهرباء، أذكر أيضا أننى رأيت صور فلاحين اشتروا التليفزيون ولم تكن الكهرباء قد وصلت إلى قراهم. وأسمع عن آلاف وربما ملايين المصريين الذين اشتروا الهاتف المحمول واستخدموه وربما مازالوا يستخدمونه لغرض واحد وهو «الدردشة». وللدردشة كما نعرف موقع متميز فى قائمة وسائل التسلية التى يستخدمها المصريون ولن يستغنوا عنها تحت أى ظرف أو ضغط. لا يعنى هذا أن المستخدم المصرى للهاتف المحمول ولغيره من وسائط الاتصال الحديثة لم يتطور ويتقدم، أو أنه لم يطور أساليب عمله، انما يعنى انه بدون عنصر التسلية الذى وفره الهاتف المحمول وفيس بوك وتويتر ووسائط أخرى كثيرة، ما كان يمكن للمصريين ان يذهلوا العالم مثلما فعلوا خلال أول «بروفة» لهم مع ثورة شعبية حقيقية، وما كان يمكنهم ان يضيفوا إلى حجم المعرفة الإنسانية وإلى علوم السياسة والاجتماع، ما أضافوه حين استخدموا بإتقان مثير وسائط الاتصال الالكترونية للتسلية ومن التسلية إلى الثورة.
أنتظر أن تنص وثائقنا الدستورية على حق التواصل باعتباره أحد حقوق الإنسان الأساسية، وأن تعترف بحق الإنسان المصرى فى التسلية والراحة كحق لا يقل أهمية عن حقه فى العمل والتعليم.