يوم آخر من أيام العمر - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:54 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يوم آخر من أيام العمر

نشر فى : الثلاثاء 21 أبريل 2020 - 9:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 21 أبريل 2020 - 9:25 م

تلقيت رسالة من صديقة عاشت ضمن حياتى لحظات كثيرة، كتبت تقول «كتبت عنى فى مقال لك عن تطور مهم فى مسيرتك دون أن تكشف عنى، كان لى دور وأنت أشرت إليه، أليس حقا لى أن يعرف غيرنا عن هذا الدور ما تعرف أنت، ويعرف من كانوا معنا، وبعضهم لا يزال يملأ الدنيا نشاطا وصخبا»، نعم صديقتى العزيزة، من حقك أن أعلن الاسم وليس من حقى أن أخفيه عن عمد، ولكن دعينى أعترف لك ولغيرك أنى حاولت ولم أفلح فى كثير من الحالات، لست وحيدا فى هذا المضمار، هكذا أحبط كل كاتب عاش كتوما أو حافظا لأسرار من اختلط بهم من الناس أو عاش بعض حياته فى صحبتهم، انتقدنى أصدقاء قرأوا قبل ربع قرن «حكايتى مع الدبلوماسية»؛ حيث اختفت معظم الأسماء، أظن أنى تحسنت بعض الشىء على مر السنين ربما لأنى كثيرا ما أتشاور مع من يخصهم أمر أكتب فيه أو لأن ذاكرتى فقدت بعض لمعانها فصرت لا أتردد فى طلب المساعدة من آخرين عرفوا كيف يحمون الذاكرة.
***
استيقظت ذات يوم من أيام عام 1994 على ألم تحملته لساعة أو أقل حتى صرنا فى السادسة وصار غير محتمل، أيقظت رفيقتى كاتما أمامها كعادتى أغلب الألم وراغبا فى الانتقال إلى مستشفى، سمعتها تتصل بزميل لابننا وراحت تصف له الألم ليس كما ظهر لها مخففا، ولكن كما قرأت حقيقته فى قسمات وجهى وتهربى من نظراتها، وهى التى كانت دائما نفاذة ودقيقة، ازداد الألم قسوة، أذكر أن ممرضين ظهرا، أحدهما يحمل ما يشبه السرير المعدنى سمعت فيما بعد أنى رفضت أن أستلقى فوقه، وبالفعل نزلت الدرج مستندا إلى ممرض، فهمت وقتها، أو قيل لى بعدها، أن زوجتى لجأت لزميل ابننا بعد أن جربت أطباء متخصصين فلم يرد على اتصالاتها أحد منهم، كان اليوم جمعة وكنا فى بدايته، تصادف أن الطبيب الشاب قضى ليلته بمستشفى خاص يعمل به متدربا وعرض أن يستقبلنى فيها لإجراء الفحوصات الضرورية واتخاذ ما يلزم لوقف الألم، استطاع بسلطاته المحدودة إرسال سيارة إسعاف وفشل فى حجز غرفة خاصة فى قسم الرعاية المركزة وفى استدعاء أطباء متخصصين كبار حسب إصرار زوجتى التى لم تقتنع بحجة الجمعة كيوم عطلة أو أن الصباح لا يزال مبكرا.
***
أظن أنه تم عزلى تماما عن عائلتى والأصدقاء القريبين الذين بدأوا يتوافدون لتزدحم بهم صالة الانتظار، لم أكن واعيا بقية اليوم لتطور الأحداث داخل هذا المستشفى الصغير الواقع على مدخل إمبابة، الحى الشعبى الأشهر بكثافته السكانية وماضيه السياسى وحاضره الثورى، ولكنى استطعت فى الأيام اللاحقة تجميع عدد من الشهادات الحية والروايات المتداولة عما حدث فى ذلك اليوم الذى وصفه أحد الأقرباء بأنه للعائلة كان يوما صعبا ومجيدا فى آن واحد، أما أنا فقد اعتبرته وسجلته فى أوراقى يوم بعث جديد، تعبير البعث الجديد لم أكن أنا صاحبه بل جاء على لسان أحد الزوار من بين قليلين قد يأتى ذكرهم فى السطور التالية، أصر هذا الزائر على أن ينقل عن طبيب غير متخصص حضر لبعض الوقت قوله إن عمر هذا المريض كاد يفلت، ولعله بالفعل أفلت لبعض الوقت ثم أعيد بقدرة قادر.
***
سارت الأمور فى المستشفى ببطء لا يتناسب ونفوس من حولى تغلى، زوجتى تطلب طبيبا أشهر وانتقالا على الفور إلى مستشفى دولى أحسن تجهيزا، أطباء المستشفى يرفضون الموافقة على اقتراح الانتقال فالحالة متدهورة والمريض غير واع لاتخاذ قرار، لا أحد فى المستشفى مستعد لتحمل مسئولية النقل، فجأة تغير الوضع، اتصلت ابنتنا الصغرى من البيت، أبلغت أمها أن الأستاذ فهمى هويدى اتصل بالبيت وطلب محادثة أبيها.. كان فهمى يتصل عادة ليتأكد عن صدق أو فحوى معلومة وردت فى مقال لى، لم يكن فهمى هويدى وحيدا فى تمسكه بهذه العادة، أنا شخصيا درجت على استخدامها منذ السنوات القليلة التى قضيتها فى جريدة الأهرام وبخاصة بعد أن لاحظت أنها سمة من سمات الكاتب والصحفى المتميز، هيكل لم يتردد فى استخدامها ولا بهاء الدين أو شباب الصحفيين اللامعين مثل مكرم محمد أحمد وصلاح منتصر وصلاح الدين حافظ وآخرين تعلمت على أيديهم فى مرحلة مبكرة من حياتى فنون مهنة رائعة.
اعتذرت الابنة للأستاذ فهمى بأن أباها فى المستشفى وكانت تبكى، دقائق واتصل فهمى بزوجتى وسمع الشكوى من البطء وصعوبات فنية ونقص فى الأدوية وعدم وجود طبيب، وعدها بالتصرف على الفور فهو صديق لرئيس المستشفى، بعد ساعة كانت المستشفى تغلى بالحركة والنشاط وزوار جدد منهم الأستاذ هيكل، سألت فهمى إن كان هو من أبلغ هيكل بحالتى، لم تسعفه الذاكرة وإن كان يعتقد أن زوجتى هى التى اتصلت به تطلب المساعدة، وصفت ابنتى الوضع فى المستشفى فى أعقاب وصول هيكل قائلة «تحولت المستشفى إلى ورشة عمل يقودها هيكل، وفى أحيان كان صوته يرتفع بالغضب فيسمعه الدانى والقاصى فى المبنى، سمعته يقول لطبيب مشهور وصل للتو مستدعى منه أن معه تكليفا من رئيس المستشفى بتولى المسئولية كاملة».
***
تردد عن سبب غضب الأستاذ هيكل أن الأطباء لم يجدوا فى المستشفى الدواء الذى لا يستغنى عنه طبيب معالج لحالة سكتة قلبية عنيفة، راح الرسل من العائلة والأصدقاء يبحثون فى الصيدليات القريبة عن زجاجة أو مجرد جرعة، باءت بالفشل كل المحاولات بينما حالة المريض تتدهور إذ كان قد مضى أكثر من اثنى عشر ساعة منذ سددت الجلطة ضربتها الأولى، حل الليل وازداد عدد الزوار والأطباء والجميع فى انتظار الدواء، مرت الدقائق ثقيلة قبل أن يهمس فيه أحد الحاضرين فى أذن هيكل، عادت الابتسامة، نهض من مقعده واتجه إلى حيث كانت زوجتى فى غرفة تخضع لعلاج أزمة ناتجة عن الخوف والقلق، قال إنه يأتى إليها بعد أن اطمأن إلى أن الدواء قادم فى الطريق، يحمله الدكتور على هيكل نجله الأكبر والطبيب فى مستشفى قصر العينى، هناك وجد الدواء.
***
بعد حقنة الدواء المضاد لتجلط الدم أعلن أشهر الأطباء المحيطين بالفراش أن المريض سوف يخضع لعزلة مدتها ثلاثة أيام، هى الفترة التى يتوقعون أن تتكرر الأزمة خلالها أو تزول الغمة، غادر الكثيرون وبقى قليلون لم تنفع معهم توسلات الممرضات، انتصف الليل أو كاد على بعض أفراد العائلة وأصدقائها بعد أن وزعوا الأدوار على أنفسهم، وبينما كان الأقربون إلى غرفة الرعاية بين النوم واليقظة ظهر بطول الباب وعرضه راهب برداء الرهبنة ورموز التقديس وهيبة الكنيسة وغموضها، عرف الحاضرين بنفسه «أنا الراهب أ.أ. من كنيسة () بمصر القديمة، جئت أحمل رسالة للأستاذ ج. م شفاه الرب»، اقترب من الراهب أفراد فى العائلة مرتعشون بالقلق ليهمس أحدهم فى أذن الراهب مستفسرا عن هوية فحوى الرسالة وهوية المرسل فقوبل طلبهم بالاعتذار، ألحوا وأصر الراهب قائلا «الرسالة من مرسل لا يرفض له طلب»، تعمق الذعر فى نفوس الحاضرين بينما ظلت ممرضة قوية الإيمان تحاول رفع الخوف وتهدئ الروع، راحت تشيد بالراهب ومكانته وتتوسل لدى العائلة للموافقة على أن يلتقى بالمريض فى حضورها، وبالفعل تم اللقاء بين الراهب حامل الرسالة ومريض يكاد يكون غائبا عن الوعى، المثير فى الأمر أن الذاكرة على ضعفها لم تمح إلى الآن صورة الراهب وهو يقرأ من الكتاب المقدس.
***
أمس، أى بعد مرور ما يقارب ستة وعشرين عاما وقبل أن أختم هذه السطور، دفعنى الفضول مجددا، عدت أبحث عند أصدقاء عديدين عن مكان وحالة شخص بعينه كنا نتشارك فى صداقته، حصلت بعد ساعات من الاستقصاء على رقم هاتف إلكترونى، واتصلت ودار حديث امتد ساعة فى نهايته سألت «أنت أرسلت الراهب والرسالة؟» أجابت «نعم كنت أنا، ولست نادمة».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي