مثلما تسنى لها، قبل عقدين مضيا من الزمن، احتواء الخطر الأحمر السوفياتى، عبر تقارب اضطرارى وظرفى مع بكين مطلع سبعينيات القرن الماضى، ترنو واشنطن، هذه الأيام، لاجتذاب روسيا إلى تحالفها العابر للقارات، الهادف إلى إعادة بناء العالم من خلال تقويض التهديد الصينى المتعاظم، وإجهاض التقارب الاستراتيجى المتفاقم بين موسكو وبكين، بما يحول دون نشوء تحالف استراتيجى بينهما، يتسع فضاؤه ليشمل تكتلات عالم ثالثية صاعدة كتجمعى دول «شنغهاى« و«البريكس». بموازاة ذلك، تتطلع واشنطن لاستبقاء تحكمها فى وتيرة التعاون الروسى ــ الأوروبى المتنامى، بما يضمن تعزيز التفاهمات الأمريكية مع كليهما فى مواجهة بكين.
فى استراتيجية الترغيب والترهيب حيال موسكو، وجد بايدن وسيلته المثلى لبلوغ تلك الغايات. فمن جهة، تشبث بالتنسيق معها فى القضايا محل الاهتمام المشترك كالتغير المناخى، والجوائح الوبائية، والاستقرار الاستراتيجى العالمى، وضبط التسلح، ومحاصرة الحروب السيبرانية. ومن جهة أخرى، راح يبعث برسائل تحذيرية مفعمة بفرط جدية فى ردع أية تهديدات روسية، بغير انجرار إلى غيابات الصراع. فرغم عدم تبلور دعم غربى، يمكن الارتكان إليه، لأى توجه انفتاحى إزاء موسكو، تعتقد أوساط أوروبية وأمريكية أن بناء توافقات راسخة مع روسيا عبر إدماجها فى التكتل الأورو ــ أطلسى، سيحررها من ربقة التأقلم الإجبارى مع السياسات الصينية فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ، كما سيؤهلها لاستعادة دورها المستقل فى معادلة الأمن الآسيوى، بما يكبح جماح الصعود الصينى المزعج هناك.
أما بوتين، الذى عاصر خمسة رؤساء أمريكيين منذ اعتلائه السلطة نهاية العام 1999، ويوقن بأن المهابة فى السياسة أفضل من الاحترام، فلا ينتوى أى تصعيد للتوترات مع واشنطن، بقدر ما ينشد تفاهما يعيد لبلاده شيئا من ماضيها التليد البائد عبر مشاطرة الأمريكيين إدارة شئون العالم. وتوسلا لذلك المقصد، استبق قمة الساعات الأربع باستنفار مختلف ركائز قوتى موسكو الخشنة والناعمة، مستحضرا وشائجها الأرثوذكسية مع صربيا واليونان وقبرص، ومستثمرا دورها الحيوى فى أمن الطاقة الأوروبى، مع استعراض أكثر منظوماتها التسليحية تقدما، من خلال المناورات الحربية الأضخم التى أجرتها قواتها البحرية فى القطب الشمالى والمحيط الهادى. بالتزامن، انبرى بوتين فى إنعاش حلم بلاده الأوراسى، والابتعاد بها عن مخططات بكين الطموحة فى آسيا والمحيطين الهندى والهادئ، مع تجنب إبداء امتعاضه من إحياء واشنطن لتحالف ديمقراطى يتصدى لأطماع التنين الصينى، الذى تستنكف روسيا الاضطلاع بدور الوصيف أو الشريك التابع له.
رغم تأكيد بايدن لحلفائه الأوروبيين والأطلسيين قبيل قمة جنيف، بأنها لن تكون مناسبة لإضفاء الشرعية على سياسات موسكو العدوانية، وأنه سيطلع بوتين خلالها على العواقب الوخيمة التى ستلحق ببلاده حالة تجاوزها خطوط واشنطن الحمر، ثم إعلانه عقب انقضاء القمة عن تحقيق مآربه منها، يعتبر مراقبون بوتين الرابح الأكبر فى القمة «البراجماتية»، التى لم تتمخض إلا عن عودة السفراء، وإصدار إعلان مشترك يدعو لإطلاق حوار بناء بشأن الاستقرار النووى الاستراتيجى، يحول بدوره دون نشوب حرب نووية، علاوة على تدشين مسار عقلانى وقابل للتنبؤ، عساه يمهد لحلحلة الخلافات الجاثمة على صدر العلاقات الأمريكية الروسية.
تفنن بوتين فى اقتناص مغانم القمة قبل التئامها. فبعدما هاتفه بايدن فى إبريل الماضى، للتأكيد على أهمية التنسيق المشترك فى إطار مبدأ «المعاملة بالمثل» لضمان الاستقرار الاستراتيجى العالمى، جدد وزير الخارجية الأمريكى، عشية القمة، رغبة واشنطن فى إقامة علاقات بناءة، ومستقرة، ويمكن التنبؤ بها مع موسكو. وبينما لا تبدو إدارة بايدن على قلب رجل واحد بشأن التعاطى مع روسيا، يتجنب البنتاجون وصفها بـ«العدو». وبعيد تلميحه خلال القمة الأخيرة لمجموعة السبع الصناعية الكبرى، إلى إمكانية استعادة موسكو عضويتها السابقة فى المجموعة، تراجع بايدن عن اتهامات لبوتين فيما مضى بأنه «قاتل سيدفع ثمن أعماله»، ليصفه فى ختام قمة الناتو الأخيرة، بأنه «شخص ذكى وصارم وخصم يستحق العناء». وفى بيانها الختامى، أكدت القمة الأمريكية الأوروبية التى جمعت بايدن بكل من رئيسة المفوضية الأوروبية، ورئيس المجلس الأوروبى، قبل سويعات من القمة الروسية الأمريكية، على ضرورة إبقاء قنوات الاتصال والحوار مفتوحة مع موسكو.
برع بوتين فى استثمار إلغاء واشنطن يوم 19 مايو الماضى، عقوبات كانت قد فرضتها على مشروع خط أنابيب غاز «نورد ستريم 2»، للتهرب من أية تنازلات كان يتوخاها منه بايدن خلال القمة، التى لمس خبراء فى انعقادها، بمبادرة أمريكية، اعترافا من بايدن بمكانة روسيا الكونية. فخلافا لوصف أوباما لها، عقب انتزاعها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014، بأنها «قوة إقليمية»، وتصنيف بعض الدوائر الأمريكية لها كقوة متراجعة، لا يضارع حجم اقتصادها، ذى الترتيب الحادى عشر عالميا، اقتصاد ولاية نيويورك، بما لا يجعلها منافسا مباشرا للولايات المتحدة بل مجرد لاعب ثانوى فى صراع تلتئم أبعاده بين واشنطن وبكين، يتفهم النافذون والراسخون فى العلم، دلالات امتلاك روسيا لأحد أهم جيوش العالم، واقتنائها تكنولوجيا عسكرية فائقة التطور، وقوة نووية تكافئ نظيرتها الأمريكية، وطوربيدات نووية مزودة بصواريخ «كروز» الفرط صوتية، وإمكانات فريدة فى مجال الفضاء السيبرانى، إضافة إلى دور محورى فى أمن الطاقة العالمى، وعضوية دائمة بمجلس الأمن الدولى.
وبعدما استبق بايدن القمة بدعوة الرئيس الاوكرانى زيلينسكى، لزيارة البيت الأبيض هذا الصيف، مؤكدا التزام واشنطن الثابت إزاء سيادتها ووحدة أراضيها، فيما أعلن البنتاجون تزويدها بما قيمته 150 مليون دولار من الأسلحة المتطورة، ليناهز إجمالى ما تلقته من مساعدات عسكرية أمريكية منذ عام 2014، ثلاثة مليارات دولار، تم تعليق مسألة انضمام أوكرانيا للناتو. فلما كان يعى أن وقع انضمامها للحلف سيكون أشد وطأة من عضوية عشر دول سوفياتية سابقة ضمن سياسة «الباب المفتوح» التى اتبعها الناتو قبل عشرين عاما، رهن بايدن انضمام أوكرانيا للحلف بموافقة أعضائه الثلاثين، بعد تطهير الدولة الأوكرانية من الفساد المستشرى فى مؤسساتها، واستيفاء جميع معايير ومتطلبات العضوية التى وردت بالمادة العاشرة من معاهدة واشنطن لعام 1949. وخلال المؤتمر الصحفى، الذى أعقب القمة، وطالب الجانب الأمريكى بأن يأتى منفردا، مخافة نجاح بوتين فى استغلال نقاط ضعف بايدن خلال أى مؤتمر صحفى مشترك ليتسيد المشهد ويبدو كمن حسم القمة لصالحه، أكد بوتين ألا شىء يستدعى النقاش لجهة انضمام أوكرانيا إلى الناتو. وفى اليوم التالى مباشرة، أعلن الكرملين أن عضوية أوكرانيا فى الحلف ستبقى «خطا أحمر» بالنسبة لموسكو.
أما بخصوص قضية الديمقراطية فى روسيا، فقد شدد بوتين على ضرورة إغلاق ملف المعارض نافالنى، الذى اتهمه بتعمد انتهاك القانون غير مرة، مؤكدا أن بلاده لا تقبل دروسا من أى طرف فى موضوع حقوق الإنسان، لاسيما وأنها لا تقحم نفسها فى الشئون الداخلية الأمريكية، إذ لم تعلق على معاناة السود والأقليات الأخرى هناك، مثلما نأت بنفسها عن الخوض فى أحداث الهجوم على مبنى الكابيتول مطلع العام الجارى.
وبعد أيام قلائل من قمة جنيف، أعلنت وزارة الخارجية الروسية أنها ستنسحب رسميا، فى ديسمبر المقبل، من معاهدة «الأجواء المفتوحة»، التى أبرمت عام 1992، وتتيح تحليق طائرات مراقبة غير مسلحة، تابعة لأكثر من 30 دولة عضو، فى أجواء بعضها البعض، بهدف تعزيز التفاهم المتبادل والثقة عن طريق منح جميع الأطراف دورا مباشرا فى جمع المعلومات عن القوات العسكرية والأنشطة التى تهمها.
بينما التقط خبراء سلوك وإتيكيت روس فى لون رابطة العنق التى ارتداها بوتين خلال القمة إشارات حسم، ورغبة فى حماية مصالح أرض الأجداد بأى وسيلة ممكنة ولأقصى حد، والذود عن المواقف بشكل ديناميكى، فيما عكس لون رابطة عنق بايدن قلقا وترددا، استشعرت شبكة CNN الأمريكية وكأن القمة كانت مُعدة سلفا لتتماشى مع تطلعات بوتين. فقد خولته الجلوس على قدم المساواة مع بايدن، الذى دعاه للقمة دون أن يشترط عليه تعديل مسار مواقفه أو سياساته الاستفزازية، الأمر الذى كرس لسردية العجز الغربى الفاضح عن كبح جماح بوتين وحلفائه. بدورهم، وجه نواب جمهوريون اللوم للرئيس الديمقراطى، جراء عقده قمة لم تعد على الأمريكيين بمكاسب استراتيجية ملموسة، بقدر ما صبت فى مصلحة نظيره الروسى، الذى أحرز انتصارات لافتة من دون تقديم تنازلات حيوية على أى صعيد. ولعل هذا ما يغذى مخاوف أوساط أمريكية شتى من أن يتمخض إعلان البيت الأبيض استعداد بايدن للالتقاء بنظيره الصينى على هامش قمة مجموعة العشرين بإيطاليا فى أكتوبر المقبل، عن تكرار الخطيئة ذاتها.