عقب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية عام ٢٠٠٠ ومع رد الفعل الإجرامى المعتاد من الحكومة العبرية ضد الشعب الفلسطينى الأعزل، خرج الرئيس الراحل على عبدالله صالح بتصريح شهير يقول فيما معناه إنه لو أن لليمن حدودا مع إسرائيل لكانت قد حررت فلسطين! لم تكن هذه المرة الأولى التى تزايد فيها بعض الأطراف العربية على مصر بخصوص القضية الفلسطينية، فقد تكررت مثل هذه المزايدات قبل ذلك التصريح وبعده، لكن ربما الجديد هى أنها كانت المرة الأولى منذ عودة مصر إلى جامعة الدول العربية فى ١٩٨٩ التى تخرج فيها هذه المزايدات الرخيصة من قائد رسمى لدولة عربية، إذا ما قمنا بالطبع باستثناء الأخ العقيد معمر القذافى الذى لم يكن يؤاخذه الكثيرون على ما يقوله!
رد فعل مبارك على الرئيس صالح كان قاسيا، إذ رد بأسلوب لا يعوزه التهكم وبالعامية المصرية قائلا: «سيناء عندك أهى يا خويا ورينا شطارتك!»
ورغم أن الأمر قد يبدو وكأنه ملاسنة تقليدية بين بعض القادة العرب، إلا أنه وفى حقيقة الأمر كان ردا معبرا عن واحدة من المعضلات العربية التى يبدو أن كل السنوات الماضية وما فيها من عبر ودروس لم تمكن الكثير من الأطراف العربية الرسمية وغير الرسمية من إدراكها، أو ربما أدركها البعض لكنه تجاهلها عمدا لتنفيذ أهداف مغايرة لسياسته الخارجية هى بالضرورة أبعد ما تكون عن خدمة القضية الفلسطينية، ولا تهدف إلا إلى التلاعب بدماء الشعب الفلسطينى!
• • •
المعضلة ببساطة تقول إن السياسات الخارجية للدول بشكل عام لا تدور فى الفراغ، ولكنها تتعلق بما يطلق عليه الباحثون لفظ «قيود» أى ما لا يمكن – أو يمكن - للسياسة الخارجية أن تحدثه من تغييرات فى بيئتها الإقليمية والدولية، والأثمان التى تتعلق بهذه التغييرات أو القرارات! وأنه حتى أقوى دول العالم لا تتخذ قرارات السياسة الخارجية فى فراغ، ولكن يكون لكل قرار ثمن ومن ثم تكون التساؤلات المشروعة مع كل قرار للسياسة الخارجية هى:
ما ثمن القرار؟ وهل يمكن تحمله أم لا؟ وهل هناك بدائل له أقل تكلفة؟
بتطبيق هذا الدرس البسيط الذى يعرفه طلاب مبادئ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية عن القيود، ويتظاهر بعض أساتذتها العرب والمصريين بجهل هذا الدرس لأهداف أيديولوجية ومنفعية بحتة، فلا يمكن لمصر أن تتخذ أى قرار فى سياستها الخارجية دون الإجابة على الأسئلة الثلاث سالفة الذكر! وهذه مسئولية أخلاقية/تاريخية قبل أن تكون وطنية لصانع قرار السياسة الخارجية، لأنه ما أسهل – وما أكثر - القرارات العنترية التى اتخذها من قبل بعض القادة العرب والمصريين عبر التاريخ وبدت شديدة الوهج وحصدت الإعجاب الشعبى والهتافات المزلزلة، ثم كانت أثمانها باهظة بشكل دفعت الشعوب ثمنه من دمائها وقوتها حتى أكثر مما دفعته الحكومات!
قرار الحرب ليس سهلا، وقرار فتح الحدود لكل من هب ودب لإرضاء الجماهير لن يمر دون أثمان، وبالمناسبة الأثمان التى نتحدث عنها هنا لن تكون فقط من إسرائيل، ولكنها ستكون من الولايات المتحدة فى ظل منظومة دولية معطوبة وقاسية ولا تعترف بأى قانون أو قيمة أخلاقية باستثناء قوانين وشرائع الغاب التى تسمح للدول الأكثر قوة بالمعانى العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية والدعائية بالعربدة فى المسرح الدولى!
لا أعتقد أن هناك خلافا شعبيا أو حكوميا أو أكاديميا حول طبيعة النظام الدولى الحالى، فأظن أن هناك اتفاقا عاما على أن سياسة الكيل بمكيالين هى العنوان الأبرز لهذا النظام المهترئ، لكن يأتى الخلاف على ما يبدو لى فيما يتعلق بما يمكن للسياسة الخارجية فعله – أو عدم فعله - أمام هذا الواقع القاسى المرير والحرج!
• • •
فلنبدأ إذا بتعريف القيود الواقعة على السياسة الخارجية المصرية وفى ذلك يمكن تحديد خمسة منها على النحو التالى:
القيد الأول يتعلق بالتزامات مصر الدولية والمتعلقة بالتوقيع على اتفاقية السلام مع إسرائيل. وبغض النظر عن تقييمنا لهذه الاتفاقية واتفاقنا أو اختلافنا حول بنودها، لكن الحقيقة أن الاتفاقية بها مواد ملزمة للجانب المصرى متعلقة بالترتيبات الأمنية فى سيناء ومسألة السيطرة على الحدود بالإضافة طبعا إلى الالتزام باتفاق السلام مع الدولة العبرية.
القيد الثانى متعلق بكوننا دولة جوار ومواجهة فى الوقت ذاته مع الأطراف المباشرة للصراع، فمصر دولة جوار لإسرائيل وللأراضى الفلسطينية المحتلة، وبالتالى سواء اتفقت مصر مع حكومات إسرائيل أم لا، توافقت مع حركتى حماس والجهاد والسلطة الفلسطينية أم لا، فكوننا دولة جوار ومواجهة، يعنى أن أى تغيير على الأرض فى هذا الجوار يمس الأمن القومى المصرى بشكل مباشر، وإذا ما انتقلنا من الجوار الشمالى الشرقى للجوار الغربى والجنوبى (ليبيا - السودان)، ففى كل هذه نقاط الاتماس المباشرة مع مصر جغرافيا، هناك ما يؤثر على أمننا القومى بشكل مباشر ولا يمكن تجاهل هذا القيد أو التقليل منه، أو المغامرة معه بأى حال من الأحوال!
أما القيد الثالث فمتعلق بالوضع الإقليمى العربى - الشرق أوسطى، وهو وضع ضاغط على صانع القرار المصرى من اتجاهين، الاتجاه الأول متعلق بظهور قوى إقليمية جديدة أصبحت تنافس مصر فى وضعها كقائد إقليمى للمنطقة، هذه القوى الصاعدة ليست دول عدوة لمصر، بل على العكس هى دول صديقة وترتبط مع مصر بأواصر تاريخية واقتصادية وثقافية، ومن ثم فى هذا التنافس الحساس لابد لصانع قرار السياسة الخارجية المصرى أن يكون حذرا ولبقا وذكيا فى نفس الوقت!، أما الاتجاه الثانى متمثل فى عدم استقرار دوائر أعمق فى الناحية الشرقية ولطالما تم اعتبارها دائما عمقا للأمن القومى المصرى، وخصوصا اليمن، ولبنان، وسوريا، والثلاث دوائر هذه لا تعانى فقط من عدم استقرار سياسى وأمنى، ولكنها - وبكل أسف - أصبحت مسرحا مفتوحا للحروب بالوكالة من أطراف أخرى غير عربية وهو ما يزيد من ثقل هذا القيد على صانع القرار المصرى.
أما القيد الرابع فيتعلق بالظروف الاقتصادية المصرية، وهى ظروف صعبة فى زمن يعانى فيه العالم من موجات متأرجحة بين الكساد والتضخم، ويزيد على ذلك عدم استقرار سلاسل توريد الغذاء عالميا وهو ما يؤثر بالضرورة على مصر، هذا كله بالإضافة أنه مع عدم استقرار منطقة الشرق الأوسط فإن مصادر الدخل القومى المصرى تتأثر بشدة ولا سيما حركة الملاحة فى قناة السويس، بالإضافة إلى عدم استقرار السياحة!
وأخيرا، يأتى القيد الخامس متعلقا بالانفتاح الجزئى للمساحة السياسية فى مصر، وهو انفتاح لم يكتمل بعد ومازالت فيه كثير من القضايا العالقة، وهو ما يؤثر ليس فقط على مسألة التوافق الشعبى اللازمة لقرارات كبيرة فى السياسة الخارجية (كالحرب مثلا)، ولكنه أيضا يؤدى إلى حالة استقطاب يستغلها بعض المنافسين الإقليميين لمصر وتزيد من القيود الجاثمة على صنع قرار السياسة الخارجية المصرية!
• • •
أمام هذه القيود الخمسة، نكون أمام سؤالين، الأول ما يمكن للسياسة الخارجية المصرية فعله؟ والثانى هل هذه القيود قدرية لا يمكن تغييرها أم أن هناك قدرا من الأمل فى تغيير بعضها؟
بخصوص السؤال الأول، فبكل تأكيد الإجابة بعيدة كل البعد عن حالة الدروشة التى تجعل البعض يتخيل أن الحل بالفعل ببساطة هو فتح الحدود وإعلان الحرب، أو ما يقوله بعض (ومنهم أكاديميون ومثقفون للأسف) إن لم تكن مصر راغبة فى الحرب، فدعونا نقوم نحن بها! ليت الأمور بهذه البساطة! فالمسألة ليست فقط مدى استعداد مصر للحرب، ولكنها أوسع من ذلك بكثير، فكل الحروب لها خسائر بشرية واقتصادية واستراتيجية فادحة حتى بافتراض تساوى موازين القوى الحربية، ولو كان الأمر بهذه السهولة ما كانت حماس التى صدرت للعالم أن هجمات السابع من أكتوبر ستحرر فلسطين، ثم ها هى غزة نفسها اليوم محتلة وسط مأساة بشرية للفلسطينيين وجل ما تتفاوض حوله حماس الآن هو فقط إيقاف الحرب والانسحاب من غزة!
بعبارة أخرى، فإن هؤلاء الذين يدفعون مصر لاتخاذ قرارات متسرعة فى سياساتها الخارجية هم أول من سيقفون فى صف الوساطة بين مصر وإسرائيل لاحقا لإحداث سلام بعد أن تكون مصر تعرضت للدمار الاقتصادى والبشرى، ليظهر هؤلاء بعد أن حرضوا وزايدوا على مصر لدفعها للحرب لاحقا كحمائم للسلام، لنتفاوض من نقطة أبعد بكثير من تلك التى نقف عليها اليوم!
بالطبع كل هذا لا يعنى أن مصر ليس عليها دور للقيام به تجاه القضية الفلسطينية، فمصر عليها أدوار وليس دورا واحدا، وهى بالفعل تقوم به فى حدود ما تسمح به ظروفها الاقتصادية والإقليمية وظروف البيئة الدولية كذلك! كما أنه لا يمكن تحقيق نصر للفلسطينيين متعلق بإقامة دولة مستقلة دون فعل عربى أو دولى جماعى، وإلى حين تحقق ذلك (وهو فى حد ذاته قيد إضافى على سياسة مصر الخارجية)، فأى مزايدات على الدور المصرى ليست أكثر من عبث وحالة دروشة عصية على الفهم!
لكن، هل هذه القيود على سياستنا الخارجية قدرية ولا يمكن تغييرها، أم يمكن لمصر أن تغير من بعضها؟ هذا ما يستحق المناقشة فى المستقبل.
أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر