ألمانيا بدون آنجيلا - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:52 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ألمانيا بدون آنجيلا

نشر فى : الأربعاء 21 يوليه 2021 - 9:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 21 يوليه 2021 - 11:44 م
كثيرا ما راودنى سؤال لم يكن فى معظم المرات بريئا، سألت ومازلت أسأل، هل نحن الآن أمام ألمانيا «أوروبية» أم أوروبا «ألمانية». بمعنى آخر هل خرجنا من تجربة الزعماء الألمان ما بعد الحرب وأولهم كونراد أديناور وآخرهم أنجيلا ميركل بألمانيا، وقد اكتست بقيم وطباع وتطلعات ومفاهيم «أوروبية»، أم خرجنا بأوروبا وقد تلونت بألوان وخصال ألمانية حتى بدت لنا الآن مثل ثمرة مكتملة لجهود وتجارب وتطلعات ألمانية.
لا فضل كبيرا لألمانيا على ميلاد مشروع الوحدة الأوروبية. الفضل الأكبر يعود لتفكير فرنسى أسس لنظرية الوحدة وصاغها، أذكر تحديدا فضل جان مونيه. ولد المشروع بصفات جذابة وعلى الفور صارت له عند التطبيق كاريزما خارقة وشعبية كبيرة. ينهض المشروع على تضافر مكونات مهمة مثل التاريخ المؤلم والزاخر بحروب عديدة مدمرة، ومثل مراحل الاستعمار والتنافس بين قواه على المستعمرات أو النفوذ الخارجى. ينهض أيضا معتمدا على قيم مشتركة مطبقة حينا ومتغافل عنها فى معظم الأحيان، منها القيم الحقوقية والديموقراطية واحترام الحريات الأساسية، ينهض كذلك على قيادة مشتركة ألمانية فرنسية أوحت برسالة تدعو إلى قيام سلم أوروبى طويل الأمد ونهضة اقتصادية تدعمهما الولايات المتحدة الأمريكية.
لا يمكن إنكار أو التقليل من فضل أمريكا على نهضة ألمانيا. ولكن تستحق عناصر أخرى أن يُعترف بفضلها على تطور القوة الاقتصادية الألمانية ومن ثم قيادتها الفريدة فى نوعها لأوروبا. أذكر من هذه العناصر وبترتيب جزافى نوع القيادة السياسية فى ألمانيا وتأثيره أيضا على نشأة نخبة سياسية متميزة، نعترف الآن أنها دخلت منذ فترة مرحلة كمون وربما انحدار أو فلنقل تغير فى الأولويات. من العناصر الأساسية أيضا سقوط حائط برلين وتوحيد الشطرين الغربى والشرقى من ألمانيا. العنصر الأهم من وجهة نظرى، والمثير فى آن أنه هو نفسه العنصر الأهم فى المرحلة الأخيرة من نهضة الصين، هو العولمة. فبدون العولمة وحركة التجارة الحرة التى رافقتها ربما ما تمكنت كل من ألمانيا والصين تحقيق القفزة الاقتصادية الكبرى التى نقلتهما بسرعة إلى مكانة متقدمة.
كانت أنجيلا ميركل أول امرأة فى تاريخ ألمانيا تتولى منصب المستشارية، وهو المنصب الذى قضت فيه ستة عشر عاما. كانت أيضا المستشار الأطول أمدا فى هذا المنصب، أطول من أدولف هتلر الذى لم يقض أكثر من اثنى عشر عاما، حوالى نصفها حروب. واجهت ميركل خلال حكمها أربع أزمات رئيسة هى الأزمة المالية العالمية فى عامى 2008 و2009. والثانية أزمة المهاجرين السوريين فى 2015 والثالثة أزمة البريكسيت فى 2016 والرابعة أزمة كوفيد ــ 19 المتواصلة والمستمرة منذ 2019. جميعها أزمات حادة ومعقدة وكاشفة لقدرات القابض على عملية صنع القرار فى برلين، والمهيمن على عمليات صنع القرار فى بروكسل مقر المفوضية الأوروبية. لفت نظرى، ولاشك نظر آخرين عديدين، تعقيدات الأزمة المالية ومشكلات منطقة اليورو والتيسيرات التى اقترحتها ميركل لتسوية أزمات اليونان وأسبانيا والبرتغال وغيرها، وهى التيسيرات التى كان لها أثر كبير فى تشكيل الوعى الشعبى الألمانى بالنسبة لدور ألمانيا فى أوروبا والعلاقة بين دول الشمال الأوروبى وجنوبه. لفت النظر أيضا الموقف الحازم، والنادر حدوثه، للسيدة ميركل عندما سمحت باستقبال مليون مهاجر سورى وشرق أوسطى. هذه الأزمة حطمت قيودا وأطلقت تيارات وأشعلت من جديد مفهوم القومية الألمانية. وفى العام التالى تفجرت أزمة البريكسيت مثيرة شكوكا قديمة قدم التاريخ الأوروبى حول نوايا بريطانيا العظمى تجاه دول القارة ومهددة استقرار ولاءات دول شرق أوروبا تجاه بروكسل. هنا أعلم أن السيدة ميركل شعرت بضرورة الاستعداد لوضع جديد فى قيادة أوروبا، وضع يعتمد نهاية الترويكا القائدة والتى ضمت إلى جانب ألمانيا كلا من إنجلترا وفرنسا وضرورة حلول قيادة جديدة محلها. ثم حلت بألمانيا كما بغيرها أزمة كوفيدــ19، وهى الأزمة التى كشفت أكثر من غيرها حال سوء أداء أجهزة الوحدة الأوروبية.
للشخصية الألمانية خصال خاصة أضفت على الألمان غموضا من نوع فريد. نسمع كثيرا أن الألمان لن يقبلوا هذا الوضع أو ذاك، أو أنهم لن يرتضوا لأنفسهم سمعة السفه والتبذير فى المعونات ومختلف أوجه الإنفاق الحكومى. لا غموض فى الأمر، فالشعب الألمانى حقق توافقا عاما خلال السنوات التى مرت على الحرب العالمية. التوافق، الملزم حتى الآن لميركل ومن جاء قبلها وفى الغالب سوف يستمر ملزما لمن يأتى بعدها من حزبها أو من حزب الخضر، يركز على أمور ثلاثة جوهرية: أولها التمسك بسياسات ومبادئ التحالف الأطلسى وثانيها عدم الخروج عن سياسات الماكرو اقتصادية التى سارت عليها ميركل وبخاصة على جوانبها المحافظة، ثالثها إن دورا لألمانيا فى أوروبا مؤكد ومضمون ولا بد أن تتمسك به الحكومات الألمانية المختلفة. لاحظ، على كل حال، إن هذا التوافق العام السائد لسنوات طويلة لا يكشف عن نفسه من خلال الحملات الانتخابية أو فى أنماط التصويت فى الانتخابات العامة. السياسة الخارجية قلما فرضت نفسها على السياسات الداخلية.
هناك فى ألمانيا مصدر القلق يكمن فى اطراد تقدم التيارات القومية فى ألمانيا خاصة وأوروبا وداخل الاتحاد الأوروبى. فى الوقت نفسه يزداد مشاعر الاشمئزاز من كل دعوة لتمجيد العلم الألمانى أو إثارة مفاهيم تشير من قريب أو بعيد إلى القومية الألمانية، ومن الحديث المتكرر فى السنوات الأخيرة عن الوطنية الألمانية ومن ربط السياسة الخارجية بمفاهيم المصلحة القومية. يعتقد متخصصون فى تطور الحركات القومية فى ألمانيا أن السبب الرئيس فى صحوة المشاعر القومية هو أزمة المهاجرين السوريين وموقف ميركل منها؛ إذ حدث منذ ذلك الحين أن كثرت الدعوات إلى ضرورة إعادة تعريف من هو الألمانى، وكيف تسمح ألمانيا للهوية الألمانية بأن تتسع لتستوعب المهاجرين، علما بأن أى تعريف سوف يقصى قطاعات بينما يحاول ضم قطاعات. عندئذ خرج من يقترح صياغة ثقافة مختلفة شيئا ما عن الثقافة الألمانية السائدة، أطلقوا عليها «ثقافة خفيفة أو ثقافة منزوعة الدسم» حسب تسمية بعض خفيفى الظل.
لن تكون مهمة من يخلف ميركل مهمة سهلة. خذ مثلا أنه للمرة الأولى ستعمل ألمانيا فى الحقل الأوروبى بدون غطاء أمريكى، وحسب أحد المتخصصين، بدون الصخرة التى قامت مستندة إليها ألمانيا المعاصرة. أمريكا اختلفت بعد أن انحدرت. خذ مثلا آخر، الصين لم تكن هناك عندما بدأت ألمانيا صعودها، الآن الصين صارت هاجسا أو وسواسا أو عملاقا لا يمكن تجاهل وقع أقدامه فى أوروبا وفى غيرها من الساحات الدولية.
•••
أتصور أن آنجيلا غير مطمئنة تماما على مستقبل ما أفلحت فى إرساء قواعده فى ألمانيا.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي