تقيم كل فترة تاريخية من حياة الأمم، لا بالأحداث التى حدثت إبان تلك الفترة فقط، وإنما أيضا بقيم الفضائل أو الرذائل التى كانت وراء تلك الأحداث أو التى حكمتها، ذلك أنه بالنسبة للكثيرين من الفلاسفة اعتبرت الفضيلة بأنها قوة وإرادة تحدد مقدار إنسانية الإنسان، وبالتالى مقدار إنسانية المجتمعات. والعكس يقال بالنسبة للرذيلة.
مناسبة إثارة هذا الموضوع هى التحولات المقلقة التى تطال الفكر والسلوك والقيم الأخلاقية فى بعض أجزاء الوطن العربى، سواء فى تعبيرات ومواقف بعض الأفراد أم فى تصرفات وقرارات بعض المؤسسات الرسمية.
ولعل أكبر وأعمق وأفدح تحول هو ما أصاب فضيلة الوفاء أو الإخلاص لتعهدات والتزامات ومواقف وأفكار سابقة. ونحن هنا نتحدث عن الإخلاص النبيل المحب الملتزم، وليس الإخلاص المظهرى الكاذب.
والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة: هل نحن أمام إشكالية ضعف فى تذكر أقوال ومواقف والتزامات الماضى؟ وهو ما يمكن حدوثه عند الأفراد بسبب المرض أو الخرف أو الجنون، أم أننا أمام إشكالية تراجع فى حساسية ونبل أخلاقيات ضمير الإنسان الذى ماعاد يحكم تصرفات بعض الأفراد أو بعض المؤسسات؟
وهنا، هل نحن أمام ظاهرة وصفها الفيلسوف الألمانى الشهير نيتشه «بأن الكذب الأكثر انتشارا هو الكذب على النفس؟»، وفى هذه الحالة «فإننا نهدد أسس كل الفضائل، وهو التوقف عن الكذب»، كما قال الكاتب والشاعر الإنجليزى توماس هاردى.
نحن بالطبع لسنا ضد تغيير الأفكار والقناعات والالتزامات السابقة بسبب تغير حقائق الواقع والظروف المستجدة. ولكن هل يستطيع أحد إقناعنا بأن هناك أسبابا حقيقية موضوعية مقنعة فى الواقع العربى تحتم عدم الإخلاص لكل مكونات الماضى البعيد والقريب؟.
هل حقا أن هناك أسبابا موجبة للانقلاب على هوية العروبة الجامعة التى تمتد قرونا فى تاريخ العرب الطويل والتى أوجدت تاريخا مشتركا، ولغة واحدة، وثقافة فكرية وأدبية واحدة، وسلوكا اجتماعيا واحدا، وإلى حد كبير دينا واحدا يقبله الجميع كمكون أساسى فى ثقافة الأمة؟
هل حقا أن هناك أسبابا جدت لانغماس الشعوب فى لعبة فاجرة، تقودها قوى خارجية استعمارية متعددة، من أجل إدخال الشعوب فى صراعات عبثية، ومناكفات مخجلة، وغمز ولمز بذىء، واتهامات ملفقة، وتناس لتعاضد أخوى عبر القرون، وجعل بلادات وجهالات شبكات التواصل الاجتماعى هى الحاكمة للمشاعر وللأقوال؟
هل حقا أن هناك أسبابا موجبة لقراءة كل حدث صغير فى أية بقعة عربية، يقوم به جاهل أو غاضب أو يائس، جعله أساسا لعلاقة هذا الشعب العربى بذاك الشعب العربى الآخر. ألا يرى الإنسان العربى العادى أن وراء كل ضجة حول كل حدث تافه صغير استخبارات أجنبية أو جهات داخلية تعيش على استعمال الدين والعرق والجنس والمذهب والجهة الجغرافية وأخطاء التاريخ بصور انتهازية ومن أجل تغطية هذه الخيانة أو تلك؟
كل ذلك، وأكثر من ذلك بكثير لا يفسره إلا التراجع المذهل فى فضيلة الوفاء والإخلاص، إما بسبب الهجمة المركزة على إضعاف ذاكرة الأمة والأفراد وبالتالى نسف وتدمير ما قاله أيضا نيتشه «من ضرورة أن نكون وارثين لقيم الأخلاق فى الأزمنة الماضية حتى لا نبدأ من الصفر»، أو بسبب نجاح ثقافة عولمية مسطحة نجحت فى ترسيخ فردية ذاتية منغلقة مجنونة فى الإنسان العربى. والنتيجة وصول الأفراد والمجتمعات إلى تبنى رذيلة عدم الإخلاص والوفاء لكل قيمة اجتماعية إنسانية نشأوا عليها وشربوا من حليبها طيلة حياتهم السابقة، واليوم ينسونها.
ما يحتاج شباب وشابات هذه الأمة أن يعوه ويحكموا حياتهم به ويتذكروه دوما هو أن أفضع جرائم العصر ارتكبت باسم مستقبل كاذب متوهم. هكذا نجح أمثال هتلر وستالين عندما منُوا أتباعهم بمستقبل أنساهم ماضيهم وحاضرهم.
اليوم، هذا بالضبط ما تقوم به جهات خارجية وداخلية: إقناع هذه الأمة بالانقلاب على كل ثوابت الماضى والحاضر وذلك من جل الانخراط فى لعبة مسامحة المجرمين على حساب الضحايا العرب، بل ونسيان ما ارتكب وما يرتكب من جرائم بحق إخوانهم العرب، وذلك من خلال تدمير فضيلة الوفاء والإخلاص للمبادئ والثوابت والقيم الأخلاقية التى إن ماتت فإن كل الفضائل الأخرى ستموت معها.