كما توقعنا فقد راهنت جهات استعمارية – صهيونية خارجية، وجهات إقليمية، على وصول الحراكات الجماهيرية العربية إلى مرحلة الوهن أو اليأس، وبالتالى فشلها فى تحقيق أهدافها. حتى إذا ما أيقنت أن شباب وشابات الأمة لن يلين لهم عزم، ولن يخدعهم أو يخيفهم أحد، ولن يقبلوا بحلول فضفاضة مؤقتة، ولن يقبلوا بأن يتنطع لتنفيذ مطالبهم العادلة، وبانتهازية واضحة، من هم فى الأصل قد ساهموا فى إيصالهم إلى الوضع المأساوى الذى عليه يثورون.. حتى إذا ما أيقنت تلك الجهات بأن الأرض قد أصبحت تهتز من تحت مصالحها الاقتصادية والعسكرية وأوهامها السياسية بدأت تدسُّ أنوفها فى الشأن الحراكى الشعبى الجماهيرى بشتى الأساليب والحيل.
فالجهات الاستعمارية والصهيونية التى تكيل المديح لتلك الحراكات وتتمنى لها النجاح لا يمكن أن تكون صادقة أو تقول الحقيقة. فهذه الجهات التى وقفت دوما مع شتى أنظمة الاستبداد والفساد، طالما أنها تخدم مصالحها ومصالح شركاتها، لا يمكن أن تريد أى نجاح لحراكات تنادى بالحكم الشرعى النزيه الشفاف الديمقراطى العادل المستقل عن إملاءات الخارج. إنها، من المؤكد، تريد من وراء ذلك المديح الكاذب تلطيخ سمعة ونقاء تلك الحراكات أمام شعوب هذه الأمة العربية المساندة لتلك الحراكات. الهدف هو زرع الشك والبلبلة وخلط الأوراق.
والجهات الإقليمية التى تصرخ بالويل والثبور وعظائم الأمور، متهمة تلك الحراكات بأنها مخترقة من قبل قوى الاستعمار والصهيونية، دون تقديم أدلة مقنعة، إنما تفعل ذلك خوفا وهلعا من أنها لن تستطيع بعد الآن المشاركة فى تكوين الحكومات أو إسقاطها، أو الرفع من شأن هذا الحزب وتمكينه، أو تهميش تلك الجماعة وإبعادها عن ساحة الحياة العامة لكن المسألة التى تهمنا ليست فيما تنويه وتفكر فيه هذه الجهة أو تخطط له تلك الجهة.
ما يهمنا هو محاولة تفكيك وفهم خطاب تلك الجهات المتدخلة فيما لا يعنيها، والتفاعلات المستقبلية لذلك الخطاب مع واقع الحراكات العربية.
هناك أربعة جوانب تحتاج أن تبرز بالنسبة لهذا الموضوع.
أولا، نفس الخطابات التدخلية السافرة قد سبق وأن قيلت عند تفجر أى حراك جماهيرى فى أى قطر عربى، سواء فى مغرب الوطن العربى أو مشرقه. وهو إشارة واضحة إلى الاستباحة المفجعة لكلا الاستقلالين الوطنى والقومى من قبل الخارج.
لقد ساعد على تمدد وترسخ تلك التدخلات الدولية والإقليمية فى كل شأن عربى، رسمى وغير رسمى، الغياب الكامل لأفكار ومؤسسات التضامن القومى العربى، مما اضطر كل قطر عربى لأن ينشد خلاصه عند الأغراب النفعيين والاستعماريين، ووصل الحال ببعضهم إلى الارتماء فى أحضان الكيان الصهيونى وقادته من مجرمى الحروب.
ثانيا، كون الحراكات الجماهيرية العربية مؤلفة من كتل بمختلف تنوعات الخلفيات الاجتماعية والإيديولوجية فإن خطاب الجهات التى أشرنا إليها يمكن أن يحدث تأثيرات فى جماهير بعض الكتل، مما قد يؤدى إلى انفصالها وتخليها عن باقى الكتل، وبالتالى إضعاف بعض الحراكات الجماهيرية العربية أو استغلالها من قبل الخارج أو إدخالها فى صراعات جانبية فيما بين بعضها البعض.
ثالثا، هنا تكمن الأهمية القصوى لوجود نوع من القيادة التضامنية، حتى ولو لم ترغب فى أن تكون مركزية ومعروفة لأسباب أمنية، لتحلل تلك الخطابات التى ذكرناها وتكشف زيفها لجماهيرها، بل وحتى لتنتبه لوجود المدسوسين من قبل السفارات والمليشيات وأجهزة الاستخبارات الأجنبية.
وليس بخافٍ على القاصى والدانى أن بعض السفارات تعقد اجتماعات يومية، تضم استخبارات بلدانها وأزلامها فى الداخل، لمحاولة إفشال أو تشويه الحراكات الجماهيرية من خلال بث المعلومات الكاذبة وأنصاف الحقائق ونشر سيل هائل من الإشاعات والشعارات المضللة.
وإذا كانت الحقيقة هى دوما ضحية من ضحايا الحروب، كما هو شائع فى أدبيات السياسة، فإن عالم العولمة النيوليبرالية المجنون، الذى نعيشه، قد جعل الحقيقة ضحية لكل صراع أو خلاف أو تنافس. شعار هذه العولمة أصبح: مات سقراط عاش جوبلز.
رابعا، إذا ما لم تقم قيادات تضامنية متفاهمة لتلك الحراكات الجماهيرية، خصوصا إذا طال أمد وزخم حشودها، بممارسة أساليب الاستقراء وتستنتج من الجزئيات، التى تثور كعواصف هائجة من حولها، أفكارا واستراتيجيات كلية معقولة، لترد بها على خطابات المتربصين بها.. إذا لم تفعل ذلك فى الحال، فإنها تضع مستقبلها وأهدافها فى كف الشياطين، وما أكثرهم.