«ستكون دبلوماسيا رائعا أو كاتبا كبيرا.. لا ستكون إذاعيا مرموقا!»..
هكذا نطق بحماسة حقيقية الأستاذ «محسن يوسف على»؛ أستاذ مادة اللغة العربية بمدرسة أبى الهول القومية المشتركة بالهرم، موجها كلامه لى أمام كل طلاب نهاية المرحلة الابتدائية، وأنا فى العاشرة من عمرى! وجهه أبيض ناصع مشرب بحمرة، له لحية كثة، وتبدو هيئته كأنه أحد أبطال أفلام السبعينيات الأمريكية، لا تنقصه سوى النظارات الداكنة الثقيلة والشارلستون!
حينما يتحدث الأستاذ محسن تظهر أصوله الريفية بحضور واضح للكنة «الفلاحين»، كان ودودا ومحبا لتلاميذه جميعا. لكن أثر هذا الأستاذ فى نفس تلميذه بالابتدائى آنذاك «إيهاب سيد أحمد الملاح» عظيما وممتدا. كان الأستاذ الوحيد الذى التقيته وقرر حاسما أننى طالب متفوق، وأن لغتى العربية ممتازة (رغم أننى لم أعِ بذلك فى حينها أو أشعر به، بالعكس لم أكن أحصل على أعلى درجات فى اللغة العربية حتى، ربما كان هناك من يسبقنى بمرحلة أو اثنتين).
فى الحصة الأولى أو الثانية من العام الدراسى (كنا فى الصف الخامس الابتدائى) طلب أن يقوم كل تلميذ بقراءة فقرة من موضوع الدرس المقرر. استوقفته قراءتى، أثنى عليها وامتدحها بإعجاب، وقال لى «صوتك رخيم»؛ فى البداية تصورتُ أنها إهانة أو أنه يُدلل كلمة «رخم» من باب «الهزار»، طبعا أكد لى ذلك الضحكات التى تعالت من حولى فى الفصل.
ضحك الأستاذ محسن، احمر وجهه، علا صوته وهو يشرح «رخيم يعنى حسن الصوت»، ثم قال «تقرأ وكأنك مذيع محترف!»، هكذا قال.
عندما عدتُ إلى البيت، نما أول حلم كبير فى حياتى بأن أكون مذيعا بسبب أستاذ محسن، كانت هذه أول مرة يلتفت إلى فيها أستاذ ويتحدث عن وجه من وجوه التفوق أو مهارة أبديتها وتستحق الإشادة، خارج إطار التقييمات والدرجات، التفت الأستاذ إلى مهارة تطل برأسها أو حسٍ خافت بدا أنه قد يبشر بشىء فى المستقبل.
فى حصةٍ تالية، كتب الأستاذ على السبورة «اكتب فيما يلى: ما تريد أن تكتب عنه»! فقط وهكذا!! كتابة الموضوع لن تكون فى البيت، بل فى الفصل، أثناء الحصة. أول مرة نفاجأ بهذا الأمر فى حصة التعبير، تحمست وأخرجت الكراسة، أمسكت بالقلم، وشرعت فى كتابة موضوع عن السلام! استغرقنى الأمر تماما حتى فوجئت بظله الضخم فوق رأسى، ينظر لى ويبتسم بودٍ عميق.
أخذ منى الكراسة، لم أكن انتهيتُ بعد، نظر إليها طويلا، ابتسم مرة أخرى، قرأ الموضوع بصوته الجهورى على الجميع فى الفصل، بعد أن انتهى من القراءة طلب من الزملاء والزميلات أن يصفقوا لهذا «الكاتب الواعد»، قال هذا فعلا.
منذ هذه اللحظة انعقدت أواصر محبة وتعلق وإعجاب وحماس بهذا الأستاذ الذى استطاع خلال عام واحد فقط أن يفجر فى نفسى من طاقات ونجاحات على مستوى الأنشطة والمهارات الفردية (خارج إطار الدرس النظامى والدروس المقررة) ما لم أتخيله أو أظنه فى نفسى.
تحت إشرافه، حصلت على جائزة الطالب المثالى على إدارة جنوب الجيزة. شاركنا فى مسابقة الصحافة المدرسية على مستوى (قطاع صلاح سالم) بالمحافظة، وحققنا المركز الأول باكتساح، كل من فى المدرسة عرف اسمى من لوحات الصحافة المدرسية التى كنت أكتبها بخطى بإشرافه.
فى العام التالى، اختفى الأستاذ محسن، سألت عنه كثيرا، بعدما علمت أنه غادر المدرسة، حينما تيقنت أنه لن يعود ثانية وأنه لا أمل فى العثور عليه بكيت بمرارة ما زال علقمها فى حلقى. لم أعد أكتب موضوعات تعبير جيدة، انزويتُ ولم أشارك فى أى نشاط على الإطلاق بعد ذلك، خصوصا أن أحدا لم يهتم كأننى لست موجودا أصلا، تراجع مستواى فى اللغة العربية لدرجة مخيفة. صرت أقرب إلى الانطواء والعزلة. الشىء الوحيد الذى لم يفارقنى، نهمى للقراءة بتشجيع لم يزُل من أستاذ محسن، ومحبة للكتابة (بينى وبين نفسى). لا أعلم أين الأستاذ محسن الآن.. لو كان حيا أدعو الله له بالسلامة والرضا والخير.. ولو كان غادر دنيانا فإننى أترحم عليه، وأدعو الله أن يجزيه خير الجزاء وأوفره.
(المعلم إما أن يبنى إنسانا أو يهدم إنسانا.. فطوبى للبنائين).