بعد بضعة أيام تكون قد مضت أربع سنوات على ثورة شعب مصر المبهرة الواعدة. حينها غمر الفرح والأمل قلوب ملايين العرب، إذ سمعوا فى هدير جموع المحتشدين فى ساحات مدن مصر الكنانة أصوات طبول القدر العربى الجديد وهى تدق بقبضة التمرد على أبواب المستقبل الجديد الذى طال انتظار وصول ألقه.
ثورة مصر كانت لها نكهة خاصة، إذ بمصر تستطيع أمة العرب أن تتمرد وتأمل فتفعل، وبدون مصر يدخل وطن العرب فى تيه وحيرة. إنه قدر مصر، إنه قدر كل العرب. ما الذى حدث، وما الذى ستأتى به الأيام وتحمله زوابع المستقبل؟
•••
أولا، لقد أظهرت قوى المجتمع المدنى، بأحزابه ونقاباته وجمعياته وطلائع شباب ثورته ومساجده وكنائسه وعساكره وإعلامه ومثقفيه ومؤسسات اقتصاده، أنها لا تملك الفهم السياسى المطلوب للواقع الانتقالى الثورى، ولا التعاون أو التكافل المتناغم المضحى غير الأنانى، ولا استشعار المسئوليات التاريخية المفصلية فى حياة الشعوب التى تحتاج لنمط نضالى خاص به، ولا القدرة حتى على التسامح المؤقت من أجل أهداف كبرى عظيمة.
ليس المقصود تجريح مجتمع مصر الطيب الرقيق، بل نقد قادة الكثير من مؤسساته التى خذلت شعب مصر الضحية الثائر المنهك، سواء بقصد أو بغير قصد، حين تعاملت مع الثورة وكأنها كرنفالات انتخابات وجلوس حول طاولات تقسيم غنائم.
ولقد تمثلت جميع نقاط الضعف تلك فى فترة حكم الإسلام السياسى القصير الملىء بالأخطاء والذى أضاع فرصة تاريخية لبناء تفاهم إسلامى ــ قومى ــ ليبرالى يسارى من أجل إنجاح الفترة الانتقالية للثورة.
ثانيا: لا يمكن القفز فوق عامل علاقة الجيوش بالثورات والذى أثر بصور مختلفة عبر تاريخ الثورات فى كل مكان من العالم. فمن المؤكد أن لا ثورة، سواء أكانت ديمقراطية أم كانت عنفية، تستطيع أن تؤمن نجاحها ما لم يؤيدها الجيش أو على الأقل يقف محايدا تجاهها.
ومواقف الجيوش من الثورات، وهى المؤسسات التى بطبيعتها محافظة وغير ديمقراطية، لا يحكمها فى الأساس انحيازها للديمقراطية أو لحكم الاستبداد، وإنما هاجسها هو أن لا تؤدى مواقفها إلى انقسامها على نفسها. وعندما تنقسم الجيوش على نفسها تنتهى الثورة إلى أن تصبح حربا أهلية.
ذلك التاريخ المعقد للعلاقات فيما بين الجيوش والثورات تعيشه مصر الآن، والوجهة التى ستسير نحوها تلك العلاقات ستكون لها انعكاسات مهمة على مصير ثورة 25 يناير والأهداف الثورية التى ستحققها. لنتذكر بأن رفض الجيش الوطنى المصرى استعمال قوته لصالح نظام ما قبل الثورة كان عاملا حاسما فى نجاحها الأولى. يبقى الآن موضوع مصير تلك الثورة.
ثالثا: جميع ثورات العالم لعبت الجوانب الثقافية دورا مهما فى نجاحها أو فشلها. فأمزجة الشعوب وسلوكياتها وتاريخ تعاملها مع مختلف ظروف الحياة تحددها ثقافة المجتمع. فبعض الثورات تميزت بممارسة ما يعرف بالرعب العنفى فجعلت مسيرتها مليئة بالآلام والدموع. وبعض الثورات استجابت لقلة وضعف صبر الناس فدخلت فى دوامة النزاعات العبثية.
أى العوامل الثقافية لعبت دورا فيما وصلت إليه ثورة 25 يناير، ثم من بعد ذلك أحداث 30 يونيو، متروك لعلماء وبحاثة علم الاجتماع. ولكن السلبى منها سيحتاج أن يتعامل معه بصورة جدية إذا أريد لمسيرة الثورة أن تنتهى إلى مصير معقول.
رابعا: من المؤكد أن العوامل الخارجية قد فعلت فعلها فى مسيرة الحراك التغييرى الكبير فى مصر. فتعثر بعض الحركات التى ارتبطت بظاهرة الربيع العربى فى بعض الأقطار العربية، والتفجر الهائل لبراكين الجهاد التكفيرى العنفى فى أرجاء المعمورة، والتآمر التاريخى الدائم على كل محاولات التحرر والنهوض فى مصر، قلب الأمة العربية، قد انعكست بصورة واضحة على زخم وحياة وعنفوان ما بعد 25 يناير السياسية.
لكن مصر، المجتمع الضارب فى أعماق التاريخ والمالك لإمكانيات بشرية ومادية هائلة والمرتبط عضويا بمحيط أمته العربية، مصر تلك قادرة على تحييد الكثير من تلك العوامل الخارجية. ثم إن مصر عادة تضرب الأمثال للآخرين، وهى مطالبة بأن تفعل الآن ذلك.
خامسا: الدراسات الاجتماعية للثورات تؤكد أنه ليس ضروريا أن العمل من أجل أهداف مرحلية تطورية، أثناء فترات الحراكات الثورية الكبرة، هو بالضرورة مناقض للأهداف الثورية النهائية.
هناك مكان للمرحلى المؤقت فى الثورات التى تريد أن تتجنب انقلابها إلى فوضى وعنف عبثى. مصر، فى مسيرتها الحالية، تحتاج أن تعى هذا الأمر وذلك بسبب تعقد وحجم النقاط التى أشرنا إليها سابقا.
•••
كثير من الكتابات التقييمية لمسيرة الحراك الربيعى فى مصر، فى اعتقادى، مستعجلة. وهى تختلط بتمنيات شيطانية لا تريد الخير لمصر، وبالتالى للأمة العربية، وبمحاولات لخلط الأوراق من أجل حرف ثورة 25 يناير عن أهدافها الوطنية والقومية الكبرى. الهدف هو خلق أسطورة جديدة، وهى أن العرب لا يستطيعون إنجاح ثورة، سواء ديمقراطية أو عنفية.
على رأس الجهات التى تقوم بذلك الصهيونية المتواجدة فى فلسطين المحتلة. إنها الصهيونية التى أدركت عبر السنين أن مصر هى رأس الحربة لاجتثاث تواجدها الطارئ فى ارض فلسطين العربية. ما يجرى فى مصر سيقرر إلى حد كبير ما سيجرى فى أرض العرب.