• «باب الانكسار لله ليس عليه زحمة فادخل على الله منه»، هكذا كان يردد الشيخ على مسامع تلاميذه، وهكذا أقبل على الله سبحانه لأنه أدرك أنه أعظم الأبواب التى تدخلك على الله وجنته ورضوانه، وعلى محبة الخالق والخلق، ولذلك كان لا يتهافت على أبواب الحكام وأهل السلطة أو النفوذ والمال ويعشق مجالس الزهاد والعلماء والفقراء وأبواب المنكسرين لله المقبلين عليه.
• ومن هذا الباب دخل نبى الله«يونس عليه السلام» الذى كانت له حسنات عظام وطاعات لا حصر لها، ولكنه حينما دعا ربه فى محنته وكربته قال «لَا إِلَهَ إِلَا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِى كُنْتُ مِنَ الظَالِمِينَ» فلم يدخل على الله بالمن عليه سبحانه بقربات فعلها أو طاعات قدمها وما أكثرها، ولكنه أثنى على ربه وهضم ذاته وذكر معاصيها فدخل على الله من باب الذل لا المن، «فعظم الله وعظم جناية نفسه»، ومعها تعظيم النعمة وتعظيم الجناية أيضا.
• وحينما ذهب الشيخ إلى الجزائر وذاع صيته فيها وفى مصر والعالم حتى بلغ الآفاق أعطى محاضرة فى أكبر مساجدها بالعاصمة فأغلقت شوارعها عن آخرها وتوقفت المواصلات فيها تماما من كثرة الحضور داخل وخارج المسجد، فلما علم بذلك بعد المحاضرة استأذن من مرافقيه وكان بينهم وزير جزائرى ودخل حمامات المسجد وظل يغسلها ويمسحها، ومرافقوه يبحثون عنه فى كل مكان حتى وجدوه يمسح دورات المياه.
• فلما رأى العجب فى أعينهم قال: «أردت أن أؤدب نفسى حتى لا تشمخ أو تغتر».. وفعل نفس الأمر فى مصر بعد أن استقبل استقبالا حافلا فى جامعة القاهرة فى السبعينيات واحتشد له آلاف الطلاب فى حضور رئيسها د/ صوفى أبوطالب، وأعطى محاضرة رائعة حتى أحاط الطلاب بسيارته فخاف على نفسه من الغرور فذهب ليلا إلى مسجد الحسين القريب لمنزله ومسح دورات المياه به حتى يزيل ما يكون قد علق بنفسه من عجب أو شموخ أو رؤية للنفس أو نسيان لنعم الله وجوائز السماء التى تنهال عليه.
• وقد أكد لى أكثر تلاميذه الذين عايشوه فى معظم حياته أنه ما دخل دورة مياه عمومية فى مصر ووجدها سيئة وغير نظيفة كالعادة إلا قام بتنظيفها بنفسه.
• وقد حكى لى أ/ محمد قاعود صاحب الشيخ وصاحب الفندق الذى كان ينزل فيه الشيخ دائما وأحد مريديه الكبار أنه أحضر من ألمانيا ماسحة الأحذية السريعة وقت اختراعها فى السبعينيات فقام بمسح حذاء الشيخ الشعراوى.. فلما علم بالأمر لامه وقال له: أحرجتنى بذلك الأمر، مثلك يفعل ذلك، فطيب أ/ قاعود خاطره بأنه ليس بين الأحبة تكليف ــ وكان أ/ قاعود ضابطا سابقا بالجيش وثريا ومن أسرة كريمة ــ ثم صمت الشيخ برهة وقال لقاعود: «قديما يا بنى كنت أمسح أحذية كل مشايخى، فقد كانوا يدخلون الأزهر ويتركون أحذيتهم، فيخرج كل منهم ليجده لامعا ولا يعرف من الذى مسحها، فلعل الله أراد أن يكافئنى بذلك فى الدنيا».
• وكان الشيخ الشعراوى قد تعلم من غربته فى الأزهر ثم فى الإعارة أن يعمل كل شىء بيده فيغسل ملابسه ويكويها ويرتب غرفته، وقد يجهز طعامه.
• وكان لا يرفض دعوة أى عروسين لعقد قرانهما، فقد كانت الأسر تتبرك بأن يعقد الشيخ القران لأولادهم، وكان يعقد لخمسين أو ستين زوجا فى اليوم الواحد دون مقابل، وكان يكلف بعض مريديه بإحضار الشربات والحلويات لهم جميعا مجانا.
• وقد أنفق على الدعوة إلى الله معظم ما جمعه من سنوات الإعارة الطويلة فى جامعات السعودية والجزائر وغيرها، وكان يتبرع بريع كتبه وبرامجه وكتاباته فى الصحف ومعظم جوائزه للأزهر، وساعده مريدوه فى كل مشروعاته الخيرية، وكان يرفض أن يستضيف ضيوفه العرب والأجانب على نفقة الوزارة حينما كان وزيرا للأوقاف، رغم أنهم جاءوا إلى مصر فى أمور عامة وليست خاصة.
• وقد اهتم الشيخ الشعراوى مع تلاميذه بعمل ما كان يسمى «مبرة الشيخ الشعراوى» وكانت تقدم وجبات ساخنة وكاملة لمرضى المستشفيات العقلية، وكذلك المحتجزين فى أقسام الشرطة وأشباهها، وكان يقدم وجبات مماثلة لكل الشاويشية والجنود فى الأقسام والعمال فى مستشفيات الأمراض العقلية، وكان يقلد علماء الأمة العظام الذين كانوا يجودون بالخير مثل عبدالله بن جعفر، وعلى زين العابدين السجاد، وأبو حنيفة، والليث بن سعد، وقد كان الأخير يضع الدنانير الذهبية فى أطباق الفالوذج (المهلبية) ويرسلها إلى تلاميذه الفقراء حتى لا يجرح مشاعرهم.
• وكان الشعراوى يعد قبل خروجه للصلاة فى مسجد الحسين أكياسا صغيرة فيها جنيهات معدنية يقدمها للأطفال الذين يتزاحمون عليه كل يوم، وأكياسا (صررا) كبيرة يعطيها للمحتاجين والمحتاجات من الكبار.
• وكان يفعل ذلك كلما طاف مرة حول الكعبة اقتداء بقوله تعالى « فَقَدِمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة».
• وفى إحدى المرات جلس الشيخ بعد الطواف بالكعبة فجاءه رجل قائلا: لقد أخذت الكيس تبركا به ولكننى لا أحتاجه، فأنا سفير ليبيا فى السعودية وغيرى أولى به».
• وكان رحمه الله يدور حول «ربه ومولاه الحق» ويعشق الانكسار له سبحانه، وكان شعاره دائما «اعمل لوجه واحد يكفك كل الأوجه»، وكان يرى «أن الدنيا أهم من أن تنسى ولكنها أتفه من أن تكون غاية»، ولذلك يمم شطره نحو مولاه الحق، وكان يقول لتلاميذه «من كان له أب فلا يقلق، فكيف يقلق من كان له رب».
• وكان يرى أن بعض أبواب الدخول على الله عليها زحام، أما باب الانكسار وهو أعظم أبواب الدخول على الله فليس عليه زحام، حيث لا يؤمه إلا خواص الخواص ممن اصطفاهم الله ورزقهم الانكسار لله والتواضع لخلقه سبحانه، رحم الله الشعراوى وجزاه عن الدين والوطن خير الجزاء.