الكثير من الناس تخاف من علم الرياضيات منذ أن كنا صغارا ويظنون أن هذا العلم هو من قبيل السحر الأسود الملئ بالطلاسم! دعنا نقول إن تقريبا كل العلوم الطبيعية عيال على علم الرياضيات فالكون يكشف لنا أسراره ويحدثنا بلغة الرياضيات، العلم التجريبى قائم على الملاحظة والاستنتاج وهاتان العمليتان تخضعان لعلم الرياضيات، علوم الكمبيوتر كلها خرجت من رحم الرياضيات. إذا فنحن أما علم من أقدم العلوم وأثمنها وأكثرها تأثيراً في عالمنا. وتاريخنا ملئ بالأفذاذ في هذا العلم منذ الحقبة الفرعونية وحتى الآن فلا يجب أن نغفل أن هنا علماء في الرياضيات قد عاشوا ودرسوا ودرّسوا في الإسكندرية القديمة مثل هيباتيا وإقليدس وفيثاغورس وحتى عصرنا الحديث ... وحديثنا اليوم عن أحد هؤلاء الأفذاذ في فن الرياضيات في عصرنا الحديث وهو الدكتور عطية عبد السلام عاشور.
ولد الدكتور عطية عبد السلام عاشور في دمياط في 13 سبتمبر 1923 وكان الولد الأول بعد أربع بنات وكالعادة في ذلك الوقت بدأ تعليمه في الكتاب حيث بدأ تعلم اللغة العربية والقرآن والحساب وهنا بدأ ينتبه إلى موهبته حيث كان سريعاً جداً في الحساب، في سن السابعة إنتقل إلى المدرسة الإبتدائية وكانت هناك مدرسة إبتدائية واحدة فقط في دمياط للبنين وأخرى للبنات، يقول الدكتور عاشور عن هذه المرحلة: " أذكر أن المدرسين كانوا يؤدون عملهم بإخلاص وجدية كبيرة، كان المدرسون يدخلون الفصل على صوت الجرس ويخرجون على صوت الجرس ولم يكن هناك أي إهمال أو استهتار، كما كان المفتشون يقومون بالتفتيش بدقة على كراساتنا ويحاسبون المدرسين"، لا عجب إذاً أن النصف الأول من القرن العشرين كان مليئاً بالعباقرة الأفذاذ في مصر!
حصل الدكتور على الإبتدائية عام 1935 وكان أن أدى الإمتحان في المنصورة حيث لم تكن هناك لجان إمتحان للشهادة الإبتدائية في دمياط، ثم كان أن إنتقلت العائلة كلها للقاهرة حتى يتسنى للطالب الفذ الإلتحاق بالمدرسة الثانوية و قد إلتحق بمدرسة فؤاد الأول الثانوية (الآن مدرسة العباسية الثانوية)، لنرى ماذا يقول الدكتور عطية عن تلك المرحلة:" كانت المدرسة في منتهى النظام، كنا ندرس إلى جانب المواد الأساسية المعروفة موادا مثل التربية الرياضية والرسم وكانت هي الأخرى تدرس بجدية شديدة إلى جانب المقررات الهامة مثل اللغة العربية والرياضيات واللغة الفرنسية كان هناك مدرسون إنجليز ومدرسون مصريون يدرسون اللغة الإنجليزية، وكان المدرسون المصريون على أعلى مستوى"! ! بعد حصوله على التوجيهية عام 1940 إلتحق بكلية العلوم جامعة القاهرة لدراسة الرياضيات بعد معارضة من الأسرة التي كانت ترغب في دخوله كلية الهندسة أو الطب، كانت هذه إحدى الفترات الذهبية في كلية العلوم فبالإضافة للدكتور عاشور كان في نفس الدفعة الدكتور عبد العظيم أنيس (وقد تكلمنا عنه في مقال سابق) والدكتور فؤاد رجب (وسنفرد له مقال مستقل) ومن أساتذتهم الدكتور محمد مرسي أحمد (وقد تكلمنا عنه أيضاً في مقال سابق) وهو تلميذ الأستاذ العظيم على مصطفة مشرفة وقد درَّس لهم الدكتور مشرفة بنفسه الرياضيات التطبيقية، وحتى نعرف مستوى الجامعة في تلك الفترة يقول الدكتور عاشور: " كانت المناهج التي ندرسهاهي نفس مناهج جامعة لندن وكانت امتحاناتنا لها ممتحن خارجي من جامعة لندن، بالتالي لم يكن لدينا صعوبة أن نقبل لدراسة الدكتوراه في إنجلترا بعد حصولنا على البكالوريوس مباشرة."!
حصل الدكتور عاشور على البكالوريوس عام 1944 و عين معيداً بالكلية وفى العام 1945 سافر إلى إنجلترا للحصول على الدكتوراه، وقد تتلمذ هناك على يد أستاذين عظيمين هما سيدنى شابمان (ٍSydney Chapman) وبرايس (A. T. Price)، ثم عاد إلى مصر ليكمل المسيرة في جامعة القاهرة عام 1949 ولكنه استمر في التعاون العلمى معهما لسنين عدة في دراسة خاصية التوصيل الكهربائي للأيونوسفير، جدير بالذكر هنا أن التعاون مع الباحثين في مختلف البلدان ليس فقط يضمن الإطلاع على أحدث ما وصل إليه العلم ولكنه يجعل الباحث يتعرض لطرق تفكير وعمل مختلفة تثرى تفكيره هو، وفي هذا المضمار فقد سافر العالم الشاب و عمل كباحث زائر في جامعة لندن عام 1954 و جامعة بون عام 1955 و جامعة باريس عامي 1955-1956 بالإضافة إلى جامعة إكستر عامي 1962-1963 و جامعة إيبادان بنيجيريا عام 1972 و أستاذاً زائراً في معهد الجيوفيزياء في ألمانيا بدعوة من أكاديمية العلوم هناك عامي 1969 و1980 ... وهذه ليست كل القائمة ولكنها تعطى فكرة ليست فقط عن نشاط الدكتور ولكن أيضاً عن تقدير الباحثين والمراكز البحثية حول العالم لعلمه وعقليته ... فتخصصه في مسألة (Mixed Boundary Value Problems) مثلاً له تطبيقات كثيرة في الفيزياء التطبيقية كمثال ... طبعاً لن نتكلم عن القائمة الكبيرة لأبحاثه و قيمتها ولكننا سنذكر فقط أن الدكتور عطية عبد السلام عاشور حصل على دكتوراه العلوم (وهى أعلى من دكتوراه الفلسفة) عام 1967 ... يجب ألا ننسي أن أول من حصل على هذه الدرجة في أفريقيا هو الدكتور على مصطفى مشرفة.
حصل العالم الرياضى الفذ على جوائز عديدة منها مثلاً جائزة فؤاد الأول في العلوم والتي كانت أرفع جائزة علمية تمنحها الدولة في ذلك الوقت عام 1952 (وكان عمره آنذاك 28 عاماً!) و لقب فارس (Chevalier) من فرنسا عام 1995 و ميدالية الإتحاد الأفريقي للرياضيات عام 1990 ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى ثلاث مرات وجائزة الدولة التقديرية في العلوم عام 1989، كما إختير الدكتور عاشور لعضوية مجمع اللغة العربية وقد قرأت كلمة الحفل الذى أقيم في المجمع حول ضم الدكتور عاشور وكلمة الدكتور بكل إنبهار حيث تجتمع براعة الكلمة مع تفرد الإنجازات العلمية!
ونصيحة صغيرة لأبنائنا الذين يخطون خطواتهم الأولى على طريق العلم أن يتعلموا فن الرياضيات وذلك أيا كان العلم الذي تدرسونه، وإذا كنت تظن أنك ضعيف في الرياضيات فإسأل نفسك هل ذلك بسبب ضعف في طريقة تفكيرك أو هو ضعف في الطريقة التي تم بها تدريس الرياضيات لك؟ إذا كانت الأولى فأنا أعتقد أنك مخطئ لأنك طالماً تدرس علم من العلوم فأنت تدربت على التفكير المنطقى وهذا ما تحتاجه لتفهم الرياضيات، أما إذا كانت الثانية يمكنك تعويض ما فاتك عن طريق المحاضرات الرائعة على شبكة الإنترنت أو إذا كنت تفضل القراءة فهناك كتب تعتبر من الجواهر في هذا المضمار مثال (Mathematics: Its Content, Methods and Meaning) أو "الرياضيات: محتواها و طرقها و معناها"، هذا الكتاب سيعطيك القاعدة الأساسية والتي بعدها تستطيع التعمق في الفرع الذى سينفعك في علمك الأساسى.. إذا فنصيحتى للشباب الذى يسلك طريق العلم: الرياضيات ياشباب!