نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب محمود محيى الدين، نعرض منه ما يلى:
يرى الكاتب أن أسباب مظاهر الخلل الاقتصادى وما يصاحبه من توترات سياسية حول العالم يرجع إلى قدم النظم الاقتصادية والمؤسسات المستخدمة للتعامل مع تحديات القرن الحادى والعشرين. وحتى يتضح أسباب هذا الخلل، يدعو الكاتب إلى متابعة مهرجان التقنية المالية الذى انعقد أخيرا فى سنغافورة والذى يجمع بين أهل أسواق المال من ناحية والمبتكرين ورواد علوم الكومبيوتر والذكاء الاصطناعى وعلماء البيانات ومطورى نظم ومنتجات تكنولوجيا المعلومات من ناحية أخرى.
وبين الكاتب أربعة روافد انطلقت من المهرجان حول مستقبل المال والاقتصاد والذى سيسهم تغييرهم فى تشكيل الاقتصاد السياسى للعالم الجديد.
أولا كيانات جديدة للتقنية المالية. فمنها ما يحشد التمويل للمشروعات بكفاءة عالية وسرعة فائقة، ومنها ما يحول المال بين الأشخاص عبر الحدود وداخلها مستحدثا لنظم جديدة للدفع بتكاليف زهيدة، ومنها ما يطور تطبيقات مالية تستند إلى بنية رقمية ومعلومات هائلة. واستمع الكاتب فى جلسة صغيرة لعدد من مطورى البرامج حول كيفية تأسيس بنك رقمى متكامل الخدمات فى أقل من 24 ساعة، وهو ما أثير دهشة المصرفيين التقليديين الذين كانوا يظنون قبل الجلسة أنهم ممسكون بزمام أمورهم.
فاليوم مستحدثات تكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمى تتجاوز البنوك لتقوم بأعمالها، وأصبحت شركات التكنولوجيا تقود تصميم أنماط ومعايير تداول النقود ووظائف التمويل. وتزايد الطلب من مؤسسات المال على العالمين بعلوم الحاسب والتكويد والذكاء الاصطناعى والتعامل مع قواعد البيانات الكبرى وتأمينها.
ثانيا تحدث الكاتب عن هيئات الرقابة المالية والبنوك المركزية التى تحاول اللحاق بالتطورات الهائلة لشركات التقنية المالية بأساليب وإجراءات للتقنية الرقابية.. والتى تحتاج قواعدها للتعرف على العميل وإجراءات حماية الاستقرار المالى وتطوير نظم الدفع النقدى إلى مراجعة شاملة تتعلق بقدرات الرقابة المالية والإشراف على المؤسسات المالية وفاعلية التنسيق بين جهات الرقابة المالية وتلك المسئولة عن الرقابة على قطاعات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والمنافسة ومنع الاحتكار وحماية المستهلك ومكافحة غسل الأموال، وأمن قواعد البيانات ونظم المعلومات.
ثالثا التقنية الحكومية. فيرى الكاتب أن الأمر لن يستقيم وعالم المال وجهات الرقابة عليه ينطلقان بسرعات فائقة ودواوين الحكومة تتعثر فى ملفات بالية علتها أتربة تراكمت طبقاتها كآثار لعهود مبيدة وأخرى بائدة. ففى العصر الرقمى لا مجال لحديث عن خدمات حكومية دون بطاقات ذكية بأرقام موحدة وخدمات متنوعة تشمل شؤون الناس من المهد إلى اللحد. وما زالت خدمات ما يسمى بالحكومة الإلكترونية فى بلدان عربية كثيرة تتوارى خجلا، رغم كثرة الحديث عنها، وتعوقها نظم إدارية بليدة تمرد عليها أهل العصور الوسطى.
وقد كشف تقرير أخير عن ممارسة الأعمال كيف تذيلت الدول العربية، إلا قليلا، قوائم تأسيس الأنشطة الاقتصادية وتوصيل خدمات البنية الأساسية وإصدار تراخيص العمل وحماية حقوق الملكية وقواعد الإفراج الجمركى للتجارة عبر الحدود. وكيف أن موافقات تشغيل شركة، فى دول تعانى من البطالة وتراجع النمو الاقتصادى، تستغرق شهورا، إن تمت الموافقة أصلا، فى حين أنها لا تتطلب إلا أياما، وربما ساعات، فى دول أخرى. فضلا عن نظم اقتصادية تستمد حيثيات بقائها منذ ما كانت مناجم الفحم اكتشافا والآلات المسيرة بالبخار اختراعا.
رابعا هو ما يسميه الكاتب التقنية المجتمعية، بمعنى مدى الاستثمار فى البشر تعليما وتثقيفا وتدريبا لكى يكون المواطنون ومجتمعاتهم مؤهلين للاستفادة من مستجدات العصر الرقمى ومنتجات تكنولوجيا المعلومات... وأهمية توطين التنمية ودور المجتمعات والسلطات المحلية فى إدماج عموم الناس فى منظومة متكاملة ذات فرص عادلة للحياة والتقدم، وحمايتهم من الاستغلال بداية من احترام خصوصية بياناتهم وتمكينهم من أسباب التطور فى عصر شديد التنافسية ستكون لاقتصاداته سادات جدد بحكم ما يملكونه من عناصر ثروته الجديدة التى لم تعد مقصورة حتما على بعض الموارد الطبيعية والخامات الناضبة، بل علوم لا تجف بحارها.
ويرى الكاتب أنه بالرغم من كل هذه التطورات التى تعكسها الروافد الأربعة، ما زال البعض يظنون أن من سادوا اقتصادات العالم منذ أوائل القرن التاسع عشر سيستمرون وخلفاؤهم فى مراكزهم غير مبالين بدورة عجلة التاريخ. وعادة ما يذكر عام 1820 كعام تحول فى قيادة دفة الاقتصاد العالمى من العالم القديم فى الشرق لأوروبا الغربية بفعل الثورة الصناعية الأولى التى اندلعت منذ عقود سبقت على هذا التاريخ. ويحدثنا المؤرخ جون هيرست فى كتابه الذى قام الكاتب بترجمته تحت عنوان «أوروبا: تاريخ وجيز» أن ثورات الصناعة صاحبتها وتلتها تغيرات اجتماعية وسياسية كبرى وأحدثت ثورات فى نظم الحكم أو ثورات عليها، فى مقارنة بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا فى سبل تعاملها وتفاعلها مع ما طرأ من مستجدات. ومن الشواهد ما يظهر أن دفة الاقتصاد العالمى وثورته الصناعية الجديدة تميل باطراد إلى الشرق مرة أخرى، وما نراه اليوم من سمات التوتر والنزاعات ما هو إلا من أعراض هذا التحول، حتى يستقر إلى حين.
النص الأصلي