تكلمنا في مقال سابق عن أهمية قراءة وفهم تاريخ العلوم لأن ذلك يعطينا دروساً عن كيفية حدوث الاكتشافات ونستطيع استحضار تلك الدروس عندما نعمل نحن أنفسنا في البحث العلمي. تاريخ العلوم أيضاً يعلمنا أن الفشل شيء طبيعي في طريق إكتشاف الحقائق، وأن فهم الطريق الذي سلكه مجموعة من العلماء كي يصلوا إلى إكتشاف ما يجعلنا نفهم هذا الإكتشاف نفسه بعمق أكبر. أحد أهم مكونات تاريخ العلوم هو سير العلماء أنفسهم وطريقة تفكيرهم وشخصياتهم. نفس الإكتشاف قد يصل إليه عالمان ولكن بطريقين مختلفين لذلك نجد في كثير من الأحيان عدة علماء يتقاسمون جائزة نوبل لنفس الإكتشاف وهو لم يتعاونوا معاً. حتى تحدث الاستفادة الكاملة من تاريخ العلوم وسير العلماء يجب أن يصل إلينا هذا التاريخ بدقة وهذا موضوع مقالنا اليوم.
هناك الكثير من الغلطات المشهورة في تاريخ العلم وتعطي فكرة خاطئة عن الإكتشافات العلمية وبالتالي تؤثر على الأجيال الجديدة من العلماء. مثلاً كنا دائماً نسمع منذ الصغر أن تفاحة سقطت على رأس إسحاق نيوتن فاكتشف قوانين الحركة، وهذا خطأ لأنه يعطي فكرة أن الكشف العلمي يأتي كالوحي هكذا بدون مجهود. نيوتن استغرق عدة سنوات كي يكتشف قوانين الحركة والتفاحة التي رأها تسقط لها قصة أخرى. هناك فعلاً تفاحة ورأها نيوتن وهي تسقط، وأكلها، لكنه فكر أنه كي يحصل على تمويل لأبحاثه حول قوانين الحركة التي يفكر فيها منذ زمن فلابد أن يستخدم مثالاً يفهمه العامة لأن التمويل وقتها كان يأتي من الأمراء. عندما ذهب لأحد الأمراء لشرح فكرته وكيف أن تلك القوة التي يحاول دراستها تؤثر على التفاح وتجعله يسقط على الأرض حصل على تمويل من هذا الأمير ... لعمل دراسة عن تحسين سلالات التفاح في إنجلترا، ولكن هذه قصة أخرى.
إحدى الأخطاء التاريخية المشهورة عندنا هي أن عالمنا العظيم الدكتور على مصطفى مشرفة قد ساعد أو شارك أينشتاين في إكتشاف نظريته المشهورة باسم نظرية النسبية. الدكتور مشرفة ولد سنة 1897 وبحث النسبية الخاصة نشره أينشتاين سنة 1905 وبحث النسبية العامة نشر سنة 1916، تلك الأرقام لا تحتاج إلى تعليق. الدكتور مشرفة عالم عظيم ولا يحتاج أن نقرن إسمه بأي عالم في الخارج حتى نفخر به.
ما سبب تلك الأخطاء؟ أعتقد أن من أطلقها كان حسن النية ويظن أن بعض "الدراما" قد تجعل القصة شيقة أكثر وتدفع الكثير من الشباب إلى حب العلم. هذا لم يعد صالحاً في عصرنا هذا لسببين. أولاً مع وجود الإنترنت أصبحت كل المعلومات متاحة وإذا نشرت قصة مختلقة ولو بحسن نية ستفقد مصداقيتك عند الناس. ثانياً الأجيال الجديدة لم يعد من السهل خداعها فهي أجيال قد تربت في ظل الإنترنت وتنوع مصادر المعلومات منذ نعومة أظفارها وبالتالي النصائح المباشرة والأفكار الساذجة لن تجدي معها نفعاً. لكل ذلك تحري الدقة في سردنا لتاريخ العلوم وسير العلماء هو الطريق الوحيد لحصول الاستفادة الكاملة.
لكن هذا ليس سهلاً خاصة إذا حاولنا الحديث عن العلماء في مختلف المجالات لأن غالباً عائلات هؤلاء العلماء تريد أن تكون المقالات التي تتحدث عن ذويهم أو الأفلام والمسلسلات التي تتحدث عنهم مجرد مدح ولا تذكر أي عيب لهم خاصة في بلادنا العربية وهذا يعطي فكرة خاطئة عن شخصية العالم لأنه في النهاية بشر، لذلك يلجأ من يريد توصيل معلومة عن حياة عالم دون الخوف من أية ردود أفعال إلى حل آخر وهو سينما الخيال العلمي أو التي تتحدث عن عالم وهمي وتظهر صفاته الحسنة والسيئة وبهذا تستطيع إعطاء فكرة أقرب إلى الحقيقة عن العلماء.
عندما نريد أن نتعلم شيئاً من حياة عالم ما يجب أن نضع عدسة مكبرة على ما ينفعنا من حياته مثل: ماذا كانت الطريقة التي يفكر بها لحل المشكلات العلمية التي تواجهه؟ لكل إنسان طريقته في التفكير ومعرفة طرق تفكير الآخرين تساعد على تطوير تفكيرنا نحن. أيضاً كيف كان هذا العالم يتعامل مع حياته الشخصية وتأثيرها على حياته العملية؟ هناك دائماً إعتقاد أنك إذا أردت أن تصل إلى مصاف كبار العلماء فيجب أن تكون حياتك كلها خاوية إلا من العلم وتهمل عائلتك وكل شيء آخر، هذا خطأ كبير لأنه إذا كانت حياتك مركزة في هدف واحد وفشلت فيه فستصبح حياتك خاوية وإذا حققت هذا الهدف فستصبح حياتك خاوية أيضاً مثلما حدث للاعب الشطرنج الأمريكي المعجزة بوبي فيشرالذي ترك الدراسة وهجر كل شيء وركز حياته كلها في الشطرنج والحصول على بطولة العالم، وعندما حصل عليها سنة 1972 أصبحت حياته خاوية وتقريباً جن ولم يلعب في الدورة التالية لبطولة العالم سنة 1975 وتوارى عن الأضواء ولم يجد عملاً ومات في المنفى في أيسلندا وحيداً بعد أن فر من أمريكا.
تاريخ العلوم وسير العلماء مهمة لكن كيفية عرضها والدقة في عرضها جانب مهم جداً واستخلاص الدروس الهامة جانب آخر مهم، بدون هذه الجوانب لن تحدث الاستفادة الكاملة وستكون تلك السير وذلك التاريخ مجرد تسالي.