أيهما تفضل، أن تختار بنفسك كل صباح أغنية تبدأ يومك بها أم أن تقبل صاغرا أو سعيدا ما تفرضه عليك الإذاعة المصرية من اختياراتها؟ لم يشغلنى هذا السؤال فى بداية حياتى عندما كان الراديو ينعم علينا مع إشراقة كل شمس بتفضيلاته من أغانى تحتفى بالورد والفل والياسمين. لا أذكر أننا كنا نحتج على الاختيارات أو نمل التكرار. كنا سعداء بما تختاره الإذاعة. لا نبذل جهدا ولا نحتار فى الاختيار ولا نقضى دقائق الصباح الثمينة نبحث بين العربى والأجنبى عن صوت يدخل البهجة إلى نفوسنا وينعش يومنا.
***
أظن أنى فى سن الشباب نزلت ضيفا على جميع دور السينما فى القاهرة والإسكندرية، باستثناء واحدة فى شارع عبدالعزيز قرب ميدان العتبة. امتنعت عن دخولها احتراما لتوجيه من والدى وخوفا من التعرض للتحرش والسرقة. بالنسبة لنا كان الفيلم المعروض أهم عند الاختيار من دار العرض. إن فاتنا العرض الأول فى دار مترو والريفولى وراديو وقصر النيل وميامى وريو وغيرها من دور الدرجة الأولى انتظرناه عسى أن يأتى إلى دور الدرجة الثانية وبخاصة الصيفية منها. دعيت أخيرا لقضاء جانب من أمسية فى دار للسينما لم أكن قد سمعت باسمها من قبل. فوجئت بأن فى الدار خمس صالات كل منها تعرض فيلما مختلفا. كانت مهمة ثقيلة التى ألقيت على عاتقى، مهمة اختيار فيلم للمشاهدة من بين خمسة أفلام. شعرت ليلتها بأن جانبا من متعة الترفيه اقتطع قبل المشاهدة لصالح عملية الاختيار ثم بعد المشاهدة فى الندم على إضاعة فرصة مشاهدة فيلم آخر. قارنت بين زمن وزمن، رذيلة أمارسها كثيرا هذه الأيام، لأكتشف أن متعتنا كانت أوفر وأعمق فى زمن الخيارات القليلة.
***
لا أعرف بالدقة من أى تقليد أتينا بفكرة مد بوفيه على ثلاثة جوانب من قاعة بالغة الاتساع فى فندق أو قصر فخيم، كل جانب من هذه الجوانب يختص بذوق من الطعام يختلف عن الجانبين الآخرين. هذا الجانب للمأكولات الآسيوية والجانب الأوسط لإبداعات المطبخ العربى والجانب الثالث للأطباق الأوروبية. لا تفوتنى الأركان. ففى الركن الواقع بين الآسيوى والعربى يقف طباخ يعد أسياخ المشويات ويزدان ركن آخر بتل صغير من ثمار البحار والمحيطات. لم أفهم حتى يومنا هذا الخاطر الذى أوحى لشخص بأن يدعو ضيوفا ثم يضعهم أمام امتحان معقد وصعب، الاختيار بين عشرات الأنواع لملء معدة محدودة السعة ومحددة الذوق. أقارن تلك الموائد الممتدة بوليمة حضرها عدد أقل من المدعوين أقيمت على شرفى فى قصر أثرى قديم وسط جبال اسكتلندا، حين تصدرت المائدة قطعة لحم هائلة الحجم يتولى اللورد «س» رب البيت اقتطاع شرائح منها وتوزيعها شريحة أو اثنتين فى كل صحن من صحوننا، نضيف إليها أو إليهما حبة بطاطس وقليل جدا من الخضراوات المسلوقة. أما الحلو فاقتصر على محتوى ملعقة كبيرة من حلوى الخبز المرطب بالحليب المسكر والمزين بالزبيب. لا حاجة للاختيار وبالتالى لا دافع لقلق أو توتر. كثيرا ما سمعت من أصدقاء إنجليز هذا النموذج عن تلاقح الثقافات. يقولون عدنا من الهند بحب وولع للكارى ومن العراق بمخلل المانجو وتركنا لهم حلو الخبز الغاطس فى الحليب.
***
يحكى بالألم حينا وبالغضب حينا آخر أن ضابطا من ضباط الجستابو، الجستابو لمن لا يعرف من شباب هذا الجيل هو الأب الشرعى لأجهزة غير خاضعة للقانون يشكلها النظام الحاكم لحمايته، كلفته رئاسته بتفتيش بيت تسكنه عائلة مكونة من أب وأم وطفلين، وتهديد رب العائلة فى حال لم يشأ إطلاع رجل الجستابو على جميع أوراقه الشخصية. قام الضابط بأداء المهمة الموكولة إليه بالكفاءة المشهودة عن ضباط هذا الجهاز وقام رب العائلة بتسليمه ما شاء من أوراق خاصة. لم يقنع الضابط بالأوراق والمعلومات. عاد يهدد الرجل فلم يلن، أو لم يكن لديه ما يضيفه. حطم أجهزة الراديو والطبخ ومزق اللوحات الثمينة المعلقة على الحائط ولم يخضع. تحرش بزوجته أمامه وفى حضور الطفلين فكتم الأنفاس وبقى صامدا. استولى على الضابط الغضب فالتقط الطفلين وهما يصرخان لما أصاب أمهما ولدموعها الصامتة. أمسك بسكين وطلب من أعوانه الإمساك بالرجل والمرأة ونظر إليهما بعيون تطلق شررا ثم صرخ فيهما آمرا أن يختارا من الطفلين أحدهما يأخذه معه إلى مكان لا يعود منه أحد. توسلا إليه فلم يستجب. يقول التقرير الذى نشر بعد الحرب عن هذه الحادثة أن النهاية كانت مأساوية حتى بمعايير ذاك الزمن وبلغة الرؤساء المباشرين للضابط. جاء فى التقرير أيضا أن التحقيق أثبت أن المأساة وقعت بسبب عجز الأب والأم عن الاختيار بين الطفلين.
***
الاختيار التزام وللاختيار شروط. لا جدوى من إجراء أو عرض اختيار فى ظل المستحيل. ليس معقولا أن نطلب من شخص مفلس الاختيار بين جهتين تطلبان تبرعات أو بين اثنين من المتسولين. غير منطقى أن تطلب من مواطن مقيدة حريته أو معطلة إرادته أن يختار مرشحا لمنصب سياسى من بين عدد من المتنافسين على هذا المنصب. لا يحق لمن لم تساعده الظروف أن يتعلم القراءة والكتابة أن يختار لابنه أو ابنته كلية جامعية بعينها. لا يجوز لمن لا يميز بين الذوق الشرقى والذوق الغربى فى الموسيقى أن يختار للمستمعين برامج القناة الموسيقية فى الإذاعة المصرية.
***
حقى فى أن اختار من أحب وما أعمل وما أفعل بنفسى حق بشرى لا ينازعنى فيه أحد، وواجب العائلة والمجتمع والدولة حمايته وضمانه سليما لا يمس. لن يقيد هذا الحق عرف أو قانون أو تقليد. يقيده فقط شرط استحالة فعل الاختيار لقيد على حريتى ونزف فى إرادتى. يقيده أيضا الجهل المطبق بالخيارات أو بالتعالى المطلق عليها. أنا حر فأنا اختار ولن أكون حرا إذا توافرت الخيارات ولم أختر.