يزخر التراث الثقافى الإنسانى بظواهر متنوعة من المقاومة، كمفهوم إنسانى، وحق مشروع فى القوانين الدولية والأعراف الإنسانية، وله ضوابطه وثقافته وأخلاقه. وقد أقر ميثاق الأمم المتحدة ومواثيق دولية أخرى الحق الطبيعى للأفراد والجماعات البشرية والدول فى الدفاع عن نفسها، وبحقها الثابت فى الحرية التامة وتقرير المصير، ومواجهة التمييز العنصرى والاسترقاق. وقد ارتبط مفهوم المقاومة بشكل أساسى فى الذهنية العربية بمواجهة الاحتلال الأجنبى، كما حضر مفهومها فى الأدب والفلسفة والأديان والأساطير من خلال تمجيد بطولاتها وإشاعة ثقافتها.
إن الدفاع عن كل ما هو نبيل وجميل وإنسانى، هو مقاومة. والمحبة فى زمن الكراهية والتعصب هى مقاومة. والصدق مع الذات ومع الآخر هو مقاومة للكذب. وتعزيز ثقافة المساواة والمواطنة العادلة هو مقاومة للتمييز. وفضح وتفكيك ثقافة التكفير هو مقاومة للتخلف والظلامية. وإطفاء الحرائق المشتعلة فى دنيا المجتمعات العربية هو مقاومة للتفتت والاحتراب وسعى لبناء السلم والمحافظة عليه. وكذلك الأمر مع مقاومة الفساد والإفساد والغش والكذب والفِتن الطوائفية والمذهبية والعرقية والإرهاب.
يعلمنا التاريخ الكثير من دروس وتجارب المقاومة. قاوم العرب حركة التتريك العثمانية فى الربع الأول من القرن العشرين، وقاوم بطرق مختلفة قادة وشعراء وأدباء فى إقليم الخليج العربى الغزاة من برتغاليين وهولنديين وبريطانيين على مدى قرون. وجسَّدت أعمال أدبية معاصرة ثقافة المقاومة فى كل البلاد العربية، شعرًا وفنًَّا ومسرحًا ورواية وأغنية وإبداعًا. نتذكر الأعمال الأدبية والمسرحية لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وسعد الله ونّوس وأمل دنقل ومحمود درويش وعبدالرحمن الشرقاوى وغيرهم.
ثقافة المقاومة هى ثقافة بديلة ومضادة لثقافة الاستعباد وانتهاك حقوق الإنسان، وهى حالة تربوية أخلاقية نفسية، لا يكفى فى فعلها الهدف النضالى أو السلمى اللاعنفى، وإنما لا بد أن يحكمها نظام قيمى وطنى وإنسانى، ولا نعنى هنا قيمًا وهمية يصنعها خيال المقاوِم، وإنما نعنى معاييرها للسلوك الاجتماعى، والتدبير السياسى الرشيد، وقيم الحرية المسئولة، ولها أخلاقها وقوانينها (المماثلة فى القصاص) كما أن لثقافة اللاعنف قواعدها وأدواتها وخياراتها وظروفها. نجادل هنا مفاهيم المقاومة لكى تتطور وتستدام، ويحمل أصحاب القلم والفكر مسئوليات أدبية وأخلاقية لمساءلة هذه المفاهيم، فى زمن اشتد فيه أوار النزاعات والفتن والاضطراب، وصارت الفوضى والاضطراب والاقتتال سلعًا رائجة، وتأثرت سلبًا المناعة الجمعية.
فى خطاب قدمه كاتب هذه السطور أمام مؤتمر اتحاد الكتاب والأدباء العرب، المنعقد فى الجزائر فى فبراير 2017، قال: «إن نبل مهمة أهل القلم والفكر والإبداع يتجسد أيضًا فى مقاومة الكذب حول ما نعرف، بمعنى أن نخدم الحقيقة قبل أن نخدم الحرية، أو على الأقل ألا نتحوَّل إلى شاهد زور، وأن نقاوم ثقافة الشغف المَرَضى بالسلطة عند النخب السياسية والحزبية ونواجه ثقافة الفساد والقبح والظلامية فى السلوك والخطاب ونقاوم النفخ فى غرائز الهويات الفرعية والضيقة».
المقاومة ليست هدفًا لذاته، وليست حرفة أو مهنة، أو ثوبًا مغشوشًا تتدثر به السياسة والمصالح، إنما هى استجابة واعية لتحديات الواقع والمستقبل، وتعزيز لثقافة «تربى الأمل»، وتعيد العافية للنسيج الأهلى الجمعى، ورافعة للعدالة والحرية والمواطنة المتكافئة والسلم المجتمعى، واستجابة واعية لضمان سلامة الدولة الوطنية. إن الخطوة الأولى باتجاه مساءلة ثقافة المقاومة تبدأ من خلال الوعى الموضوعى بالتحديات التى تواجه الإنسان والوطن والأمة، وإدراك واعٍ للواقع، وضروراته وإكراهاته، واعتبار «المصالح جلبًا والمفاسد درءًا»، وأن لا قيمة لمقاومة تُحرّر أرضًا أو وطنًا، ولا تحرر الإنسان من الخوف والفساد، والكراهية والأنانية، ولا تحترم كرامته وحقوقه الإنسانية ولا تضمن سلامة مستقبله.
مفكر عربى من الإمارات
بالتزامن مع جريدة الخليج