نتقاعد أو لا نتقاعد؟ - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:56 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نتقاعد أو لا نتقاعد؟

نشر فى : الأربعاء 23 أبريل 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 23 أبريل 2014 - 8:00 ص

كنا فى العمل لا نفترق. وكنا فى غير أيام العمل نكاد لا نفترق. لم نختلف يوما حول شأن من شئون المهنة. واختلفنا طول الوقت حول كل شأن آخر. اختلفنا حول السياسة والأيديولوجيا وفى معايير اختيار أصدقائنا. واحد من هؤلاء الأصدقاء صار ثالثنا فى أكثر الأمسيات وليالى السهر والسفر. اختلفنا أيضا، وهو الأهم، حول ما ننوى أن نفعله بعد عشرين سنة.

•••

صديقى كان يحلم بتقاعد مبكر وراح يخطط. يتقاعد فى سن مبكرة وينتقل مع أقل القليل من حاجاته الضرورية إلى شاطئ العجمى. سيكون قد اشترى بيتا صغيرا لا يطل على البحر ولكن محاط بالهدوء. يرى نفسه وقد اختار البنطلون القصير رمزا دائما لحالة تقاعد. هناك فى العجمى سيقضى فصول السنة جميعا. لا يرى نفسه فى القاهرة بعد التقاعد إلا عند الضرورة القصوى.

استعد بكل شيء يمكن يحتاجه. بل لعله بدأ يتباطأ فى مشيته وحركته واهتمامه بالعمل تمهيدا للتقاعد. كان سعيدا بقراره، وفخورا إلى أن فوجئ بعد عشر سنوات أن التضخم النقدى فتك بمدخراته المتواضعة التى خصصها لشراء عش الأحلام فى شاطئ العجمى. اكتشف أنه لم يحسب أنه قد يتزوج وأن يكون لزوجته رأى مختلف عن عيش مشترك مع رجل متقاعد فى منتجع منعزل. قضى، بعد السنوات العشر، سنوات أخرى يحاول تصحيح حساباته. لم يغير قناعته. ظل مقتنعا بأن لا قوة على وجه الأرض تستطيع أن تثنيه عن تقاعد مبكر يقضيه فى العجمى حتى صدمه الواقع الأليم.

لم يكن لأحد منا أن يدرك وقتها أن ضاحية العجمى نفسها، فردوسه المنتظر، ستكون الصخرة التى يتحطم فوقها حلم الصديق الغالى. زارها بعد غياب سنوات فوجدها فى حال مزر. عاد منكسرا وحزينا.

•••

قرأت فى مطلع الأسبوع فى إحدى الدوريات الأمريكية عن زيادة ملحوظة فى عدد أساتذة الجامعات الأمريكية الراغبين فى التقاعد مبكرا. علمت بعدها أن هذا التوجه موجود أيضا فى مهن أخرى، كالصحافة والمحاماة والحرب والجاسوسية.

ينقل الكاتب الذى اختار أن يناقش هذه الظاهرة عن أحد هؤلاء الأساتذة التساؤل الآتى نصه: هل استمرارى فى ممارسة ما أفعل وفعلت على مدى عقود سوف يزيدنى خبرة وعلما؟

آخرون تساءلوا: هل استمرارى فى العمل يزيدنى دخلا ورخاء وصحة؟ هل هناك ما يضاف إلى مكانة حققتها وسمعة شيدتها؟ هل يستحق الأمر الخروج إلى شوارع مزدحمة وبيئة ملوثة، لألقى محاضرة قضيت ثلاثين أو أربعين عاما ألقيها كل يوم نصا وحرفا، أو لأقرأ وأصحح مقالات كتبها مفكرون عظام يرددون فيها ما سبق أن كتبوه وسبق أن صححته؟. هل يستحق استمرار العمل فى سن متقدمة أن أستيقظ فى الفجر أو أستدعى بعد منتصف الليل لأجرى عملية جراحية سوف تحمل رقم الألف أو أكثر، لإزالة مصران أعور فى بطن شاب أو لوزتين فى حلق طفل أو ورم فى بروستاتا. الشيء المؤكد الذى توصل إليه كاتب المقال هو أن عددا متزايدا من كبار السن صار يشعر بالملل من انكبابه لسنوات عديدة على أداء عمل لا يتغير..

أضف إلى هؤلاء آخرين انتابهم «القرف» وليس فقط «الزهق»، من سخف وتفاهة وتكرار ما يفعلون يوما بعد يوم وسنة بعد سنة وعقد بعد عقد، ومن التدهور المستمر فى أخلاقيات العمل والزمالة.

•••

الناس عندنا لا تتقاعد. نقابل أصدقاء ومعارف وزملاء بعضهم لا يسمع إلا قليلا ولا يتكلم إلا متلعثما أو مستطردا أو فاقدا المنطق والتسلسل، وبعضهم لا يرى إلا غيوما وضبابا. أكثرهم يكابر بتأثير الضرورة أو مستسلم بتأثير المخدر كاتم الألم. استفسرت وسألت.

كثيرون يعتبرون الموضوع بأسره خارج دائرة اهتماماتهم، والقليلون الذين قبلوا على مضض الكلام فيه كانت لديهم أسئلة مشروعة ومعقولة. تساءل أحدهم بقلق واضح عن الفئة العمرية التى سوف يقضى معها مضطرا وقت تقاعده، هل سيقضيه مع الشباب من الجنسين فى النوادى مثلا أو مراكز الترفيه الاجتماعى؟ جاءته إجابة مجرب بأن يبتعد عن هذه الفئة، فشباب هذه الأيام «كسالى»، مشغولون بالفيس بوك وغيره من أدوات التواصل الجديدة، أغلبهم لن يقبل بسهولة ورضاء تسلية متقاعد، ناهيك عن أنه لم تعد هناك قضايا كثيرة يشترك فى الاهتمام بها جيل شباب هذه الأيام والأجيال الأسبق.

•••

آخر يرفض التقاعد المبكر لأنه يخشى أن يجد نفسه مضطرا إلى مصاحبة غيره من المتقاعدين. يفضل أن يواصل أداء عمله الممل على أن يقضى ساعات النهار والليل يستمع إلى طرائف وغرائب عن الأحفاد وجمالهم وخفة ظلهم وذكائهم الفريد. أو أن يجد نفسه طرفا فى نقاشات غير مجدية بل وأحيانا مرضية حول الرئيس القادم، الزعيم الراحل والجماعة الملعونة والنشطاء والعملاء والمؤامرة الدولية وهيفاء وحلاوة الروح.

صديق آخر متمرد على التقاعد يخشى أن ينتهى به الأمر إذا تقاعد إلى أن يقضى معظم وقته ينصت، أو يتظاهر بالإنصات، إلى شكاوى رفاق التقاعد عن آلام عرق النسا «السياتيكا» وآلام الظهر والرقبة والركبتين. ثالث رفض الفكرة من أساسها إذا كانت نتيجتها انحشاره فى مكان مغلق مع زوجة تتحرش سعيا لاقتتال. آه لو عرف أن هذه الزوجة، وهى أيضا صديقة عزيزة، دعتنا مرارا إلى تشجيعه على مواصلة تمرده على التقاعد لأنها لا تستطيع تخيل حال البيت إن قضى فيه وقتا أطول مما يقضيه الآن.

نتقاعد أو لا نتقاعد؟ كثيرون وجدوا الحل.. اشتغلوا بالسياسة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي