الخيال نعمة - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:01 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخيال نعمة

نشر فى : الأربعاء 23 يونيو 2010 - 10:02 ص | آخر تحديث : الأربعاء 23 يونيو 2010 - 10:02 ص

 طفل فى الثالثة من عمره يتخيل أنه أسد يرهب أقرانه أو أبو تريكة بين معجبين، وطفلة فى الخامسة تتخيل نفسها نضجت وصارت عروسا أو كبرت مثل أمها فتضع حذاءها وتلون شفتيها وخديها. يتخيلان ولا يخجلان، أما الكبار فيقضون الساعات يتخيلون ولا يعترفون كما لو كانت سباحتهم فى عالم الخيال إثما لا يصح أن يراهم آخرون وهم «يرتكبونه». نعيش جميعا فى عوالم متعددة خارج العالم الذى نأكل فيه ونشرب وننام ونتريض ونسترخى ونحب، عوامل يصنعها خيالنا ويتفنن فيها فيبدع. أبلغنى صديق متخصص أن الإنسان العادى يقضى مع الخيال وقتا أطول مما يقضيه مع أى نشاط آخر. نقضى أوقاتا طويلة نقرأ روايات ونشاهد مسرحيات ومسلسلات تليفزيونية وأفلاما سينمائية ونتسلى بالنميمة و«فبركة» الشائعات.

والحقيقة التى لا أخفيها هى أننى لم أبخل يوما على نفسى بلحظات، وأحيانا ساعات، أقضيها مع الخيال. كانت، ولاتزال، نافذتى التى أطل منها على كل ما حرمتنا منه حياة الواقع، ولأستزيد هواء نقيا ونفسا ناعمة وصداقة قوية ووطنية صادقة ونظافة طاهرة وجمالا راقيا.

لست وحدى، على كل حال. فلكل منا نافذة، البعض الكثير منا لا يستطيع العيش بدونها مفتوحة على مصراعيها ليلا كما فى النهار، والبعض الآخر يخاف منها ويبتعد عنها. وهو إن اقترب منها فليختلس لحظة يعود بعدها إلى الواقع الذى تآلف معه أو استسلم له. هذا الخائف لا يعرف قيمة ما فاته. يقولون إن الأشخاص الذين نصنعهم فى خيالنا أرق وأظرف من الأشخاص الذين نتعامل معهم فى عالم الواقع، عالم كل يوم.

مثلا نرى «الأصدقاء» الذين نشاهدهم فى المسلسل الأمريكى المعروف بهذا الاسم أخف ظلا من أصدقاء نسمع عنهم فى عالم الواقع. يقولون أيضا إن الأبطال الذين صنعناهم فى خيالنا ونستمر فى إنتاجهم أقوى وأشجع من أبطال الواقع، إن وجدوا. وأظن أن الأبطال الذين يصنعهم خيالنا هذه الأيام يمتازون بتفوقهم الذهنى والعضلى والحسى على أبطال كان خيالنا يصنعهم قبل عقود، أى قبل أن يتوقف واقعنا عن إنجاب نوع متميز من البشر.

من عوالم الخيال عرفنا أشياء وأشخاصا وأماكن ما كان يمكن أن نعرفها من احتكاكنا بعالم الواقع مهما درنا فيه وجلنا. اكتشفنا أن كثيرا مما عرفناه فى عالم الخيال، أى من خلال الروايات والأفلام والكتب، كان أروع من حقيقته فى عالم الواقع. أنا شخصيا وجدت «فونتانا دى تريفى» على الطبيعة فى روما أقل روعة من النافورة التى صنعها لنا خيال مخرج فيلم «الحياة الحلوة»، ووجدت سواحل البحر الأحمر وجبل كليمنجارو المغطى بالجليد على حدود تنزانيا وكينيا ومصيف ماسورى على سفوح الهيمالايا وتلال كاندى فى سيريلانكا حيث قضى أحمد عرابى بعض أيام المنفى، وجدتها جميعا رائعة ولكن أقل إبهارا من كل الصور التى صنعها خيالى وخيال من رسموها وسجلوا بها رحلاتهم ومغامراتهم.

ومع الوقت تتحول بعض صور الخيال وثماره إلى واقع. رأينا فى اليونان وإيطاليا وروسيا ومصر تماثيل لأشخاص برزوا فى التاريخ انطبعت فى أذهاننا كتعبيرات مجسمة لأصحابها، لا نعرف أشكالا لهم غير أشكالهم التى نحتها الأوائل مهما حاول المجددون.

ووقفنا بالساعات أمام لوحات فى كنائس أوروبية ومعابد هندوسية وبوذية انغرست فى وعينا حقائق وواقع. يكاد أغلبنا يتفق على شكل معين للمسيح عليه السلام وشمشون وكليوباترا ملكة بطالمة مصر وهنرى الرابع ووليام شكسبير، وكلها أشكال صنعها الخيال.

ونكاد جميعا نتفق على سيرة معينة لمشهور من المشاهير مثل سعد زغلول ولورانس العرب وأدولف هتلر وفلاديمير لينين وجون كينيدى ومارلين مونرو، وهى سير صنع عنصر الإثارة فيها مبدعون أقاموا صروحا فى عالم الخيال مثلهم مثل غيرهم من المبدعين فى فنون النحت والرسم والأدب والإخراج السينمائى.

نرى نساءنا وبعض رجالنا يبكون فى كل مرة يقرأون أو يشاهدون رواية تعيد سرد قصة أنا كارنينا مصرية كانت أم روسية أم هندية أم يابانية، ونسمع كثيرين يرددون بسخرية أو شماتة عبارات نطق بها نجيب الريحانى أو بيرم التونسى قبل نصف قرن ينتقدان بها سلوكيات مصرية.

وقبل أيام قليلة عرضوا على شاشات التليفزيون طابورا ضم عشرات الآلاف من الأطفال والشباب والشيوخ اصطفوا فيه منذ الفجر ليكونوا أول من يدخل نموذجا أقيم فى أورلاندو بولاية فلوريدا لمدرسة هارى بوتر السحرية، هذه الشخصية الوهمية التى خلقتها كاتبة أسكتلندية لتعيش فى خيال ملايين الأطفال والكبار فى شتى أنحاء العالم.

نمارس الخيال لتعويض ما نفتقده وتنشيط خلايا أصابها خمول. يمارسه من يملك القليل ليتساوى «خائليا» مع من يملك الكثير، ويستخدمه المظلوم لينتقم من ظالم بعيد عن التناول. ينغمس فيه المحروم من الهدوء والمحروم من الصحبة والمحروم من الحب والمحروم من راحة الضمير والمحرومون من العدالة والمشاركة والحرية.
نمارسه بدون تحفظ لأنه النشاط الإنسانى الوحيد الذى لا تصل إليه عيون الرقباء وآذانهم ولن تصل رغم نبوءة جورج أورويل. لن يراك أحد وأنت تتخيل، ولن يسمعك. لن يعاقبك أحد لأنك فى تخيلاتك أذنبت أو تجاوزت أو تطرفت وثق تماما من أنه بدون خيال لن تغير أو تتغير.

نحن فى الخيال أحرار.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي