الإعلام والمصداقية... - سمير العيطة - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 7:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإعلام والمصداقية...

نشر فى : الأحد 24 يناير 2021 - 9:25 م | آخر تحديث : الأحد 24 يناير 2021 - 9:25 م

للبنان صورة مميزة بين البلدان العربية، وبالتحديد من حيث ترسخ الحريات العامة فيه منذ زمنٍ طويل. ومهما كانت الأسباب التى منحته هذه الفرادة ــ الميزة، تبقى الحرية جوهرة لا تقدر بثمن. الصحافة اللبنانية راسخة ومتنوعة، وذات إرثٍ طويل. أهم ما فيها، مقارنة مع صحافة البلدان العربية الأخرى، أنها تنتقد بصراحةٍ وقسوة، قبل أى شىء البلد الذى تعيش فيه والسلطة القائمة. ولديها صحافة استقصائية قوية. ولذا يقرأ اللبنانيون صحفهم ويشاهدون قنواتهم التلفزيونية أولا وأساسا قبل اهتمامهم بما يصدر خارجها فى العالم العربى.
لكن اللافت أن هذه الحرية لم تمنع فساد السلطة ولا أخذ البلاد إلى الكارثة الاقتصادية والمالية التى تعيشها اليوم. وأنها أعطت عبرا ودروسا لمواطنى الدول الأخرى، الذين كانوا ــ وربما ما زالوا ــ يمتازون بأنهم لا يصدقون كثيرا الصحافة، لا صحافة بلدهم ولا تلك التى رعتها الأموال الخليجية. لكنهم باتوا «ينعمون» بشىءٍ من هامش حرية «المعلومة»، وما لم يكن معروفا من قبل، عبر وسائل التواصل الاجتماعى.
هكذا يتفاجأ اللبنانيون كثيرا مع كل استحقاق سياسى مهم بتفجر التناحر بين محطاتهم الإخبارية، وأحيانا بتغيير جذرى فى المواقف المعروفة لبعض المحطات، حول الاستحقاق ذاته، وغالبا حول قضايا لا تبدو على علاقة مباشرة مع هذا الاستحقاق. ولكن سرعان ما يدرك اللبنانيون أن مرد هذا التفجر المفاجئ هو تفاوض خفى بين أقطاب السلطة القائمة، السياسية أو الاقتصادية، حول تقاسم مغانم، أو بين دولٍ خارجية تدعم حلفاءها المحليين بينهم لا تريد أن يخسر حلفاؤها المحليون الكثير فى الاستحقاق المطروح. وفجأة تتحسن الأوضاع المالية للصحافة ومحطات التلفزة. وتهدأ المناحرات عبر وسائل التواصل الاجتماعى. ثم ينتهى التفاوض ويمر الاستحقاق وتهدأ الأمور وتسوء أحوال المحطات حتى «الأزمة» القادمة.
بالتالى، ليس واضحا ما إذا سيكون لهذه الحرية الإعلامية الكبيرة مساهمة أساسية فى إحداث تغيير سياسى ملموس للبنانيين بحجم الأزمة الاقتصادية والمالية العاصفة منذ 2019 والانفجار المروِع فى بيروت فى 2020. خاصة أن جميع وسائل الإعلام انتقلت بشكلٍ لافت من المطلب الشعبى الأول «كلهم يعنى كلهم» إلى توجيه الاتهام... بالتعطيل لهذا الطرف أو ذاك. وكأن الآخر لديه... الحل السحرى. فلا هذا ولا ذاك لديه برنامج سوى... مبادرة خارجية. ما هو واضح هو أن هناك جهدا تسويقيا لإبراز أطراف سياسية ولإضعاف أطراف أخرى بانتظار أن تقرر الإدارة الأمريكية الجديدة ــ وربما فرنسا بالوكالة ــ ما مصير لبنان. هذا إذا ما وُضِع لبنان على أولويات اللاعبين الكبار مع كل ما يحدث اليوم عالميا.
***
المشهد السورى ليس بعيدا عن المشهد اللبنانى. فقبل 2011 شكلت وسائل الإعلام اللبنانية متنفسا كبيرا لحرية خطاب وانتقاد سوريين للسلطة القائمة فى بلدهم، أكثر بكثير من محطات التمويل الخارجى التى كانت تراعى علاقات سلطات مصادر تمويلها مع السلطة السورية. وبالتالى كان لوسائل الإعلام اللبنانية دور كبير فى إبقاء الحياة السياسية قائمة نوعا ما فى سوريا، رغم مخاطر الانزلاق إلى تبنى منطق لبنانى، أو لطرف لبناني، للتعامل مع القضايا السورية. ثم تغير المشهد بشكلٍ كبير بعد 2011، ضعف دور لبنان الإعلامى فيما يخص «الثورة» والصراع فى سوريا وعليها، وتضخم دور وسائل الإعلام الأخرى وبشكل محورى. هكذا ظهرت قنوات تلفازية مخصصة لسوريا وبتمويل سخى. وبالمقابل لاقى كثير من الصحافة المكتوبة دعما أوروبيا. وإذا ما تمت إضافة الانتشار الكبير لوسائل التواصل الاجتماعى لدى السوريين، والجهد الذى بذلته السلطة السورية كى يكون لها وقعٌ إعلامى رغم الحظر والعقوبات، يمكن القول إن السوريين انتقلوا من الناحية الإعلامية من حالة الندرة إلى الفائض الكبير. وهذا غير مسبوق فى تاريخهم منذ الخمسينيات.
لهذا التطور جوانبه الإيجابية بالتأكيد. أقلها أن السوريين باتوا يعرفون بلدهم ومدنها وقراها وأنهم أخرجوا كل ما كان كامنا فى صدورهم من إشكاليات ما قبل الدولة، وربما ما بعدها، من طائفية وعشائرية ومناطقية وغير ذلك. هكذا وجدوا لهم فسحة كبيرة لـ«حرية التعبير»... هم أيضا حتى التخمة «المفرِطة».
هنا يمكن التساؤل إذا ما أخذت هذه التجربة الحديثة عِبَرا من التجربة اللبنانية، خاصة فى مرحلة انخفاض وتيرة الصراع وتقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق وحيث باتت القضيتان الأساسيتان هما معيشة المواطنين وإخراج أغلبيتهم العظمى من الفقر وكذلك إعادة توحيد سوريا سياسيا.
***
هكذا تسعى وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى إلى تحميل مسئولية الحالة المعيشية الكارثية التى تعيشها المناطق الثلاث سوية على أطرافٍ أخرى، وبعيدا عن المسئولية التى يتحملها الطرف الذى يهيمن على كل منطقة أو المسئوليات الدولية المختلفة. وتتحدث فقط عن انتهاكات الطرف الآخر، فيما يتعلق بحقوق الإنسان وهيمنة «أمراء الحرب» على قوت المواطنين، ولا تتحدث ولا تنتقد الطرف الذى تبنته، حتى عندما ينتفض الناس لمواجهة تعديات القوى المسيطرة والدول التى تدعمها. هناك بعض الأصوات الصادقة والصحافة التى تُنصِف عبر استقصاءاتها، ولكنها نادرة ولا تُبرزها محطات التلفزة ويخفت صوتها أمام الحملات الممنهجة على وسائل التواصل.
سياسيو الأطراف الثلاث يتحدثون عن تفاوض وعن حل سياسي، إلا أن لا أحد منهم يبنى على برنامج يُمكن أن يكون له شىءٌ من الواقعية، بل ينادون ثلاثتهم... بالحل الدولى. ثم تتضخم المهاترات الإعلامية مع الاستحقاقات مثل الانتخابات الأمريكية والسياسات المتوقعة للإدارة الجديدة أو الانتخابات الرئاسية السورية فى الصيف القادم. مهاترات حول «صفقات» بين السلطة و«المعارضة» أو بين السلطة و«قوات سورية الديموقراطية». ومهاترات حول صفقات بين السلطة السورية وإسرائيل. ومهاترات طائفية وإثنية وسياسية. فى حين تأتى المحطات الفضائية لترفع من زخم هذا الهياج الإعلامى.
لكن الواقع هو أن الإدارة الأمريكية الجديدة لن تنطلق من نقطة ما قبل إدارة ترامب، بل من واقع ما وصل إليه ترامب. ولا يوجد فيما نقضه الرئيس الجديد بايدن فى يومه الأول ما يخص المنطقة العربية، سوى إلغاء منع دخول مسلمين إلى الولايات المتحدة. وما وصل إليه ترامب ذهب بعيدا من الاعتراف بضم القدس والجولان إلى إسرائيل حتى تطبيع كثير من الدول العربية المتسارع معها، وبالنسبة لسوريا ترسيخ الفوضى فيها.
فهل حقا يرتفع الضجيج «الإعلامى» لأن هناك تفاوض على... حلول؟ وخاصة حلول لرفع الضنك المعيشى عن السوريين أو لإعادة توحيد سوريا فى منظومة سياسية جامعة حيادية لمرحلة انتقالية. أم أن كل ما فى الأمر هو رفع السقوف بغية تحسين تموضع شخصيات أو تنظيمات أو دول فى الفوضى القائمة؟ وبالنتيجة كى تترسخ الفوضى أكثر فأكثر؟
الضجيج الإعلامى شىء وترسيخ الحرية شىءٌ آخر.

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات