بالحبر السرّي - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:59 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بالحبر السرّي

نشر فى : الخميس 24 فبراير 2022 - 9:55 م | آخر تحديث : الخميس 24 فبراير 2022 - 9:55 م

في طفولته وحتى في مرحلة صباه كان يتصوّر أن الحبر السرّي هو ذلك الحبر الذي يستخدمه رجال المخابرات في كتابة تقاريرهم عن المهام التي يُكّلَفون بأدائها، وكانت قراءته لسلسلة روايات "رجل المستحيل" للدكتور نبيل فاروق قد جعلته يقع أسير شخصية أدهم صبري ضابط المخابرات المصري الذي كان قادرًا على اختراق حصون الأعداء بفضل مهارته الفائقة في استخدام كل أساليب التنكر. كان أدهم يجيد إخفاء رسائله وملامحه وشخصيته إخفاء تامًا ويبرع في التقمص إلى حد يستحيل معه كشف حقيقته. شخصية أدهم صبري هذه ألهبت خيال كل جيل الثمانينيات الذي تربّى على أعمال نبيل فاروق، ولكل جيل كاتبه، والأدّق القول إن لكل مرحلة عمرية كاتبها حتى في إطار الجيل الواحد، فعندما كبر صاحبنا أكثر ونضج أكثر انضم إلى كتيبة محبّى أعمال الأديب أحمد خالد توفيق مع أن المساحة التي تخصص فيها هذا الأخير كانت مختلفة تمامًا عن نبيل فاروق، مساحة فيها تصوّف وفلسفة وتأمل وتساؤلات كثيرة وبعض الإجابات. لكن في كل الأحوال ظلّت مكانة نبيل فاروق وبطله أدهم صبري مكانة خاصة لا يملؤها أحد، ولازال صاحبنا يذكر كيف كانت سلسلة "رجل المستحيل" تلهب خياله الشغوف بالمغامرة بلا مدى، وكم تمنّى لو أوتي مَلَكة الكتابة بالحبر السرّي لتصل رسائله إلى من يهمه الأمر مباشرة وبشكل حصري دون وسطاء. فلقد عاش جزءًا من زمن الرسائل البريدية قبل أن ينقضي تمامًا هذا الزمن، ورأى بعينيه ساعي البريد وهو يطرق باب بيتهم، وكانت عملية تسليم الرسائل واستلامها تثير اهتمامه، لكنها أيضًا كانت تثير قلقه، فما الذي يضمن أن الأسرار المحفوظة داخل الرسائل تظل أسرارًا وهناك مكتب بريد وساعي بريد وصندوق بريد كما أن هناك فضولًا بشريًا وإهمالًا ونفوسًا ضعيفة تُباع وتُشترَى؟ لم يكن صاحبنا يعلم أن ما يقلقه هو بالضبط ما عبّر عنه كاتبنا الكبير يحيي حقي في روايته البديعة "البوسطجي" عندما قرر عباس ساعي البريد أن يعاقب أهل قرية كوم النحل بمحافظة أسيوط على جفائهم معه وسوء استقبالهم له وهو المنقول إليهم من القاهرة. وتمثّل عقابه في فضّ رسائلهم وهتك أسرارهم ليعرف عنهم ما يخفون ويكسر به عينهم. لم يكن صاحبنا يعلم بأمر رواية "البوسطجي" لأن معظم جيله لم يقرأ يحيي حقي ففاته الكثير جدًا.
• • •
تلك كانت بداية علاقة صاحبنا مع الحبر السرّي: مجرد أداة مخابراتية للحفاظ على سرية المعلومات لفت انتباهه لها نبيل فاروق. لكن ظروف الحياة شاءت أن تلفت انتباهه لنوع آخر مختلف تمامًا من الحبر السرّي هو ذلك الذي تُكتب به المشاعر الإنسانية، وهناك فارق كبير بين الحبرين، فالحبر المخابراتي محله الورق والحبر الإنساني موضعه القلب، الأول يمكن فك شفرته عن طريق المران والتدريب المستمر أما الثاني فمن الصعب جدًا اكتشافه، الأول نوع من الخداع النبيل لتحقيق مصلحة وطنية أما الثاني فخداع خبيث لتحقيق مكسب شخصي، وفي المسافة ما بين حبر وحبر التقى صاحبنا بفتاة أحلامه. فتاة تشبهه في أشياء كثيرة: التلقائية التامة إلى حد البوهيمية وحب القراءة والفن والبحر والأكل والكسل والصراحة الجارحة والسخرية اللاذعة، وتشترك معه في محدودية الطموح والتمرد والميل إلى العزلة والإدمان المَرَضي لوسائل التواصل الاجتماعي والتعوّد على مذاق قهوة الصباح في أون ذا رن. كان المسرح معدّا تمامًا لصنع هذا التشابه الكبير بين الشخصيتين، وكان التشابه زائفًا في معظمه، لكن الحبر المسال في كتابة سيناريو اللقاء الأول لم يترك شاردة ولا واردة إلا وصنع منها حلقة وصل بينها وبينه حتى لا يخالج أحد أدنى شك في أنهما "فولة وانقسمت نصيّن". مثلنا جميعًا كان صاحبنا يحب أن ينظر إلى صورته في المرآة، وتجسّدت براعة فتاته في أنها أعطته الانطباع بأنها هي مرآته حتى إذا نظر إليها كأنما رأى نفسه، وعندما كان يجلس كل مساء ليفرغ شحنته العاطفية في تدوينة أو تغريدة أو بوست من إياهم على الفيسبوك كان ينهي كلامه بعبارة لا يمّل من تكرارها، عبارة "هي=أنا". لماذا نحن نحب أشباهنا رغم ما نعرفه في أنفسنا من عيوب؟ سؤال فلسفي كبير لم يراود صاحبنا أبدًا، لم يراوده لأن التلاقي مع الشبيه أسهل من التلاقي مع المختلِف ربما، وربما لأنه لم يجد أمامه وقتًا للتفكير أصلًا، فلقد أغرقته فتاته في عالم من اللفتات اللذيذة والمفاجآت المبتكرة وملأت صباحاته كلها ومساءاته وما بينها. قرأ السيناريو المكتوب له وأدّى الدور المراد له بالضبط لا أكثر ولا أقل، لم يتصّور أبدًا أن الحبر السرّي الذي طالما حلم بأن يكتب به رسائله كي يبقى ما بينه وبين أصحاب الشأن بينه وبينهم- لم يتصوّر أبدًا أن هذا الحبر قد استُخدِم في رسم شخصية مزيفة غير التي عرفها ومشاعر مزيفة تختلف عن التي تجاوب معها وعالَم مزيف لا يمّت بصلّة للعالم الذي عاش فيه. ولا يتوقّع القارئ أن يجد هنا كشفًا لمواطن الزيف في كل ما سبق فمجرد الإشارة إلى وجود الزيف تكفي وتؤدي للنتيجة المعروفة: إن ما بُني على باطل هو باطل.
• • •
لم تكن لصاحبنا مهارة أدهم صبري في التعامل مع أدوات الإخفاء والتنكّر والتحايل والكتابة بالحبر السرّي، ولو كانت له هذه المهارة لما فاتت عليه بعض التفاصيل الصغيرة التي كانت كفيلة بأن تكشف له بكل وضوح "حقيقة" حبه الأول، ولكان قد استطاع أن يقرأ ما بين السطور وما وراء السطور وما لا يظهر أصلًا على الورق من هذه السطور، لكنها على أي حال تجربة وكل تجربة تُعلّم مهما كانت مؤلمة، ولقد كان له نصيب وافر من التعلّم والألم معًا. وبينما هو على هذا الحال قرأ خبرًا صغيرًا عن إعادة طرح سلسلة "فلاش" في الأسواق بمناسبة الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب فابتسم، فهذه السلسلة تصدر عن المؤسسة العربية الحديثة التي أصدرت من قبل سلسلة "رجل المستحيل" وسلسلة "ملف المستقبل" وكل الروايات التي صنعت له عالمًا مثيرًا صدّقه وعاش فيه طفولته وصباه، وليس يدري إن أعيد طبع مغامرات أدهم صبري ما إذا كان سيحّن إلى ماضيه أم لا، فلقد بات على يقين من أن التنكّر خارج روايات نبيل فاروق أكثر وربما أمهر بكثير من التنكّر داخلها.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات