يستأثر الشام الكبير أو تعبير «سوريا الكبرى» باهتمام خاص فى الدراسات الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط، فإذا كانت العروبة قد وفدت إلى المنطقة من الجزيرة العربية فإن الامتداد الجغرافى والتاريخى لها يعود بالدرجة الأولى إلى الدولة الإسلامية إذ أن بنى أمية القادمين من الجزيرة والساحل أى تلك المرتبطة بجغرافيا ذلك الإقليم الذى يختزن فى أعماقه أبعادًا تاريخية خاصة ويعكس فى الوقت ذاته رؤى حضارية كامنة تطفو على السطح فنّا وأدبًا وثقافة إلى جانب أنها تقع فى معظمها فى إقليم البحر المتوسط بما يحمله ذلك من دلالات وما يعبر عنه من مظاهر، لذلك فإنها تلعب دورًا مؤثرًا فى ثقافة المنطقة بآدابها وفنونها، فالقدود الحلبية لا تبتعد كثيرًا عن الموشحات الموصلية والمناخ الثقافى السائد يعطى انطباعًا بوحدة المجتمع وتجانس أطرافه، بل إن التأثيرات الشامية ثقافيًا وفكريًا تخرج عن هذا النطاق لكى تكون عاملاً مؤثرًا فى ثقافة شعوب كبيرة مجاورة مثل مصر، فالنهضة الفكرية والوثبة الثقافية التى عرفتها الكنانة ترتبط بقدوم العنصر الشامى إلى مصر ليصبح الأدب والفن والموسيقى والغناء والشعر كلها مرادفات لآثار قادمة من الشام الكبير خصوصًا قطريها الكبيرين سوريا ولبنان، ولقد انعكس ذلك بالضرورة على الحركة الفكرية والتيارات القومية فى المنطقة عمومًا فشهدنا تناميًا لروح العروبة وبرزت أسماء كبيرة تأثرت بالامتزاج بين المناخين الشامى والمصرى، ولعلنا نذكر الجميع بنموذج شاعر القطرين خليل مطران، بل إن مؤسسى القلاع الثقافية والإعلامية الكبرى فى مصر إنما هم أولئك الذين وفدوا من الشام إليها استثمارًا لمناخها السياسى ومساحة الحرية المتاحة فيها بعيدًا عن سطوة الحكم العثمانى، فوفد إلى القاهرة عبد الرحمن الكواكبى وجيله ممن يرفضون الاستبداد ويحاربون الفساد وينتقدون الحكم التركى الذى جثم على صدر المنطقة لعدة قرون، بل إننى أضيف إلى ذلك أن مسيحيى الشام يتصدرون قائمة البنائين الرواد للثقافة العربية فى مصر، فآل تقلا مؤسسو الأهرام شوام ومؤسس دار الهلال جورجى زيدان من الشوام أيضًا كما أن السيدة روزا اليوسف قد وفدت إلى مصر من المشرق العربى وقس على ذلك عشرات المؤسسات والأسماء التى تجعل الشام درة العقد وأيقونة الفكر والثقافة، فالكثيرون لا يعرفون أن نجيب الريحانى عراقى الأب قبطى الأم، لذلك فإن العلاقة بين مصر والشام كانت ولاتزال علاقة تكاملية ينتمى فيها الطرفان إلى تأثيرات الجزيرة العربية مهبط الوحى ومبعث الرسالة التى جاءت إلى المنطقة كلها بروح الإسلام التى انصهرت مع الثقافات القديمة فى المنطقة لتصنع بوتقة مؤثرة فى حياتنا جميعًا حتى اليوم، إننى أقول هذه الكلمات إيمانًا منى بأن الشام الكبير كان وسيظل كيانا مؤثرا لا فى الجوانب الفكرية والثقافية فحسب، ولكن أيضًا فى الإرهاصات السياسية فالحركة القومية شامية النشأة، كما أن العروبة سورية المولد لذلك يصبح من الطبيعى أن ينظر العرب فى هذه المرحلة إلى سوريا التى تستعيد عافيتها وتسترد وضعها بعد غيابٍ قارب نصف قرنٍ كامل افتقدتها فيه المحافل السياسية والدوائر الدبلوماسية إذ غابت دمشق عن الحضن العربى والتيار القومى لعدة عقود، وها هى تعود إلى حضن أمتها بترقب عربى كامل واهتمام إقليمى ودولى واسع خصوصًا وأن الأراضى السورية كانت قد تحولت إلى مرتع لبعض التنظيمات ذات الطابع الإرهابى وسقطت أجزاء منها فى مستنقع التنظيمات المتطرفة والجماعات التى تدعى الإسلام السياسى دون أن تقتنى سماحة ذلك الدين الحنيف وفلسفته الجامعة لأبناء الملل والنحل دون تفرقة أو تمييز، ولذلك فإننى أطرح فى هذه الظروف التى يواجه فيها القطر السورى رياحًا عاتية من اتجاهات مختلفة وأطماعًا متعددة من دول الجوار تارة ومن القوى الدولية تارة أخرى بعض الأفكار لكى تبقى سوريا لؤلؤة متألقة فى بر الشام رغم الجراح التى سببتها الأحداث الدامية الأخيرة والتى تؤكد دائمًا أن سوريا ــ شأن الدول العربية الأخرى ــ هى مطمعٌ للجيران ومصدر إغراء لكل من يريد أن ينال من الكيان العربى الكبير بإجهاض دورها الجديد من بدايته والتأثير على حضورها القومى الذى غاب طويلاً ثم عاد مؤخرًا ليجد لنفسه مكانًا على الخريطة القومية ولتصبح أرضه من جديد هدفًا للطامعين من مخططى السياسة الإسرائيلية الذين فتحت أحداث سوريا الأخيرة شهيتهم تجاه ذلك البلد العربى الهام تاريخيًا وجغرافيًا، بل إننى أذكر الجميع بأن حالة الترقب التى يتابع بها الكثيرين تطورات الوضع السورى هى فى حد ذاتها تعبير كبير عن أهمية ذلك البلد العربى المحورى مع رغبة شديدة فى خلاصها من تأثير الميليشيات المتطرفة والجماعات الشاردة التى تحاول أن تجد لنفسها مكانًا فى هذه الظروف الاستثنائية التى تشهد فيها دمشق تحولات كبيرة وتتعرض أيضًا لأعاصير شديدة بعضها طائفى وبعضها الآخر نتاج طبيعى للصراع التاريخى الطويل فى الشرق الأوسط حول القضية الفلسطينية التى تتحمل فيها سوريا عبئًا كبيرًا نجم عن تركة ثقيلة فى العقود الأخيرة لنظام مستبد وحكم شديد الوطأة على الشعب السورى الذى قاسى كثيرًا وتحولت أعداد كبيرة منه إلى لاجئين ونازحين، وقد بدأت حاليًا أعداد كبيرة منهم تعود إلى ديارها بعد رحلة عذاب طويلة فى الصحارى والبحار طلبًا للنجاة وتعلقًا بالحياة، ولعلنا نطرح الآن ملاحظات ثلاث نرى أنها ذات تأثير محورى على مستقبل ذلك القطر العربى الشقيق:
أولاً: نلاحظ وضوح انقطاع العلاقة بين النظام السورى الجديد والماضى المرتبط ببعض قياداته فكريًا وسياسيًا، فلكل مرحلة أساليبها ولكل أوانٍ أذان، والتحول الفكرى والسياسى أمر معترف به فى تاريخ الأمم والشعوب ولكن صدق العزيمة ووضوح الرؤية هى من لوازم ذلك التغيير ونتائجه، كما أن سوريا التى عانت من استئثار طائفة واحدة بمقدرات ذلك الشعب العريق لنصف قرن كامل من الزمان سبقته مرحلة انقلابات عسكرية وتحولات سياسية دفع ثمنها الشعب السورى فى كل وقت، ذلك الشعب لا يمكن أن تعود إليه الطائفية من النافذة بعد أن طردها الشعب من الباب، فالسوريون سواء دون تفرقة أو تمييز ودون مجاملة لطائفة على حساب غيرها. بل إننا نتطلع إلى يوم يتخلص فيه العرب جميعًا والمسلمون أيضًا من النزعات الطائفية التى تعوق المسيرة وتحول دون الرقى والتقدم فى كل الأحيان.
ثانيًا: إن العلاقات بين سوريا وكلٍ من إيران وتركيا هى علاقات شديدة الحساسية بالغة التعقيد تتحكم فيها رواسب الماضى القريب وآثار المراحل السابقة فى تاريخنا العربى خصوصًا مع دول الجوار، ولقد حان الوقت الذى يجب أن ترتفع فيه أيادى طهران وأنقرة عن الشعب السورى وأرضه وسياساته، فهو يدخل اليوم مرحلة البناء وينهى المرحلة القاتمة من تاريخ الصراعات على أرضه والعدوان على شعبه. بل إننى أنتمى إلى الدولة المصرية التى تطالب دائمًا بالتوقف عن التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى لأن ذلك ميراث لمرحلة ولّت وفترة تاريخية انتهت ولا أظنها سوف تعود.
ثالثًا: لاشك أن الدور العربى فى مساندة الأشقاء فى سوريا هو دور حيوى وحاسم ويجب أن يمضى فى طريق واحد هو طريق ما يحدث حاليًا رافضين كل ما يدور من مخططات واضحة وأساليب ملتوية تسعى إلى تحجيم الدور العربى وتقزيم التيار القومى وصبغ المنطقة بحالة من السيولة التى نجمت عن الصراع العربى الإسرائيلى وما جرى ويجرى للشعب الفلسطينى الأعزل فى غزة وخارجها من قتل ودمار فى العامين الأخيرين تحديدًا، لقد آن لسوريا أن تلعب دورًا قوميًا متوازنًا بالتعاون مع المملكة العربية السعودية ومصر بل والعراق وغيرها من الأشقاء العرب أيضًا لحماية التجربة الجديدة فى دمشق وإعلان الترحيب الكامل بعودة القطر السورى إلى أمته، فتلك خطوة إيجابية نهتم بها ونسعى إليها ونبنى عليها الكثير والعود أحمد.
نقلا عن إندبندنت عربية