تعمير سيناء كان ولا يزال أحد أبرز أوجه الصراع المصرى الإسرائيلى على المستوى الاستراتيجى، حتى لو لم يكن واضحا للكثيرين.
مصر تسعى منذ سنوات طويلة إلى تعميرها بصورة شاملة، وإسرائيل تتمنى العكس تماما، ولذلك فأى تعمير لسيناء وتنميتها، يغفل المطامع والأطماع والرغبات والأهداف الإسرائيلية، يظل قاصرا.
لا يمكن بأى حال من الأحوال الحديث عن تنمية اقتصادية مجردة فى سيناء. هى ليست الوادى الجديد أو توشكى أو العلمين أو حتى حلايب وشلاتين أو أى محافظة مصرية أخرى، وبالتالى فظنى أن ما قاله «نيوتن» فى المصرى اليوم لم يكن موفقا.
بسبب الصراع مع إسرائيل منذ عام ١٩٤٨، اكتسبت سيناء بعدا جديدا مهما وجوهريا فى الأمن القومى المصرى، بل والعربى، علما أنها لعبت دورا حاسما فى التاريخ المصرى القديم والحديث، وبالتالى يصعب التعامل مع سيناء من المنظور الاقتصادى أو الاستثمارى أو الصناعى فقط، رغم أهمية كل جانب من هذه الجوانب.
المدخل الأساسى لتنمية وتعمير سيناء لابد أن يتعامل معها كمنظومة شاملة، فى إطار الأمن القومى المصرى بمعناه الواسع، وليست مجرد منطقة تقام فيها مشروعات تدر أرباحا.
منذ نهاية حرب أكتوبر المجيدة عام ١٩٧٣، وما أعقبها من اتفاقيات لفض الاشتباك مع الإسرائيليين، تم إعداد العديد من مشروعات التنمية، وظل معظمها حبيس الأدراج، لأسباب يطول شرحها، بعضها بسبب عراقيل ومعوقات إسرائيلىة أو أمريكية أو أوروبية، وبعضها لاختزال حكومات مصرية للتنمية الشاملة فى السياحة.
لا ينكر عاقل أهمية السياحة والمشروعات السياحية التى أقيمت فى مدن جنوب سيناء خصوصا شرم الشيخ. لكن هذا النوع من التنمية، ورغم جذبه لاستثمارات هائلة، إلا أنه لا يقود وحده أبدا لتنمية شاملة.
ما تحتاجه سيناء أمر مختلف تماما، وهو التنمية الشاملة التى تضع فى جوهرها زرعها بالناس والبشر، ويحسب للرئيس عبدالفتاح السيسى أنه فى خلال السنوات الست الماضية، وبحكم خلفيته العسكرية، وفهمه لجوهر الأمن القومى المصرى، أنه بدأ التعامل الحقيقى والمطلوب مع تنمية سيناء.
كان منطقيا أن تخوض القوات المسلحة والشرطة حربا شاملة ضد الجماعات الإرهابية فى سيناء، التى سعت إلى تحويل الاستثمارات فى المنطقة إلى رهينة فى أيديها. وقد نكتشف لاحقا أن أحد أسباب خلق هذه الجماعات من قبل من يمولونهم ويشجعونهم هو منع إكمال التنمية الشاملة. ووقتها سنكتشف أيضا وجود علاقة تحالف مصالح واضحة بين الإسرائيليين والجماعات الإرهابية بكل مكوناتها، حتى لو كان الطرفان يتبادلان العداء اللفظى.
إسرائيل من وجهة نظرى عدونا الاستراتيجى، حتى لو كان هناك حالة سلام بارد أو حتى معتدل، وكما قال جمال عبدالناصر رحمه الله، فإن الصراع معها صراع وجود، وليس صراع حدود. وطال الزمن أو قصر، فإن المشروعين الإسرائيلى والعربى سوف يتصادمان إن آجلا أو عاجلا، طالما أصرت إسرائيل على سياستها العدوانية، واحتلالها للأراضى العربية فى فلسطين والجولان ومزارع شبعا.
مصلحة إسرائيل ألا يتم القضاء على الإرهاب فى سيناء حتى تظل الحكومة المصرية مشغولة، وتحلم بصدام بين الدولة وأهالى سيناء، ومصلحة الإرهابيين محاولة الضغط على الدولة والمجتمع لتحقيق أهدافهم التى تخاصم الواقع والعقل.
وخلال هذه الحرب، كان أهم قرار تتخذه الدولة هو عدم توقف التنمية، ومن أهم مظاهرها حفر الأنفاق تحت قناة السويس فى الإسماعيلية ثم بورسعيد وأخيرا تطوير وتوسيع نفق الشهيد أحمد حمدى بالسويس الذى تم افتتاحه يوم الأربعاء الماضى.
كتبت كثيرا عن هذه الأنفاق، وأرى أنها أهم مشروع قومى فى السنوات الأخيرة، لأنها ستغير شكل الحياة فى سيناء، بل وستغير المعادلة الموجودة منذ بدء الصراع مع إسرائيل، سواء حربا أو سلما. الآن يمكن زرع سيناء بالمستوطنات البشرية التى ستكون أهم سلاح لمواجهة إسرائيل فى المستقبل، وأهم سلاح للقضاء على الإرهابيين.
بالتوازى مع الأنفاق شهدنا إقامة مشروعات طرق وكبارى ومدن جديدة من أول الإسماعيلية الجديدة، إلى بئر العبد إلى المساكن التى تمت إقامتها فى شمال سيناء، والعديد من مشروعات البنية التحتية.
حينما تتمكن الدولة من نقل قطاعات كبيرة من السكان من الوادى والدلتا إلى سيناء، نكون قد حققنا هدفا استراتيجيا مهما فى إطار الصراع الاستراتيجى مع إسرائيل.
وفى هذا الإطار يمكن فهم إنفاق مصر لـ٦٠٠ مليار جنيه فى سيناء خلال السنوات الست الماضية فقط.
بعد هذه المقدمة الطويلة فالسؤال هو: هل تنمية سيناء مهمة الحكومة وحدها، أم القطاع الخاص وكل المجتمع؟.
وإذا كانت الإجابة هى كل المجتمع، فمتى يذهب كبار المستثمرين ورجال الأعمال إلى سيناء خصوصا شمالها؟
نكمل غدا إن شاء الله.