أحب كتابة مها حسن السردية، أقدر حساسيتها الفنية العالية وبحثها الدءوب عن صوتها الخاص وإنصاتها المرهف لتجاربها الذاتية الممزوجة بنظرة إنسانية رحبة، عمقتها رحلة الهجرة من سوريا إلى فرنسا وإقامتها الدائمة فى باريس.
منذ قرأت روايتها «حبل سرى» وقعت فى غرام هذه الكتابة ذات النفس الوجودى المحموم الممزوج بهموم المرأة العربية التى تعانى التهميش والإقصاء والوقوع تحت طائلة السطوة الذكورية فى أبشع صورها، وتتالت أعمالها المدهشة: «طبول الحب»، «بنات البرارى»، «الراويات»، مترو حلب».. وهى كلها روايات تقرأها باستمتاع حقيقي؛ تمارس مها حسن هوايتها الأثيرة فى اللعب وتفكيك الواقع وإعادة تخليقه سرديا دون أن تشعر بالتعقيد الملازم لمن يمارس التجريب بغير وعى ولا قدرة! وما أكثرهم!.
وفى روايتها الأخيرة «حى الدهشة» (الصادرة عن دار سرد للنشر ودار ممدوح عدوان، 2018) ستمارس مها حسن ألعابها السردية الممتعة؛ خطوة راسخة تكمل مشروعها الروائى الذى تجاوز الروايات العشر؛ لا يغيب عنها أبدا أن الرواية فى المقام الأول هى فن الإمتاع ولا تكتمل المتعة إلا إذا كان الروائى واعيا بأنه يمارس عملا جماليا فى المقام الأول لا بد أن يشد القارئ ويجذبه للانخراط فى اللعب والقراءة والتأويل.
عن الحب، وذكريات الطفولة، والقتل بالنية، والمشيمة العاطفية، ودور الأدب فى حياتنا، تنسج الروائية السورية القديرة خيوط روايتها من حرير الألم؛ وتسعى ــ فى روايتها الحادية عشرة ــ إلى جلب هذه الدهشة عبر الكتابة والذكريات، لتعيد رسم «حلب» وأحيائها الشعبية القديمة، وطقوس عيشها، وبساطة ناسها، وأحلامهم الصغيرة، قبل أن تأتى الحرب فتدمر فى طريقها كل هذا.
احترافية مها حسن تتبدى فى قدرتها على حشد التفاصيل دون أن تغرق فى ركامها أو تستسلم لغواية جمعها! التفاصيل هنا لا تعنى أكثر من الإثبات الفنى لواقع تعيد مها تفكيكه وتركيبه؛ واقع مدينة سورية عريقة ذات تاريخ وحياة كانا يميزانها ويطبعانها بطابع خاص قبل الحرب، ثم تغير كل شىء؛ المكان والبشر والمشاعر.
باقتدار حولت مها حسن جزعها الإنسانى ووجعها السورى إلى تشكيل جمالى للمكان الذى كان؛ فجاءت «حى الدهشة» رواية جميلة تحكى عن حى حلبى قديم؛ حب وشجار وعنف ورغبة. رجال ونساء، حب وبغض، وفاق وخصام؛ إنها صراعات الناس العادية، وأرشفة للمكان السورى قبل الحرب. كأنها أرادت؛ بل هى أرادت فعلا، أن تثبت المكان الذى لم يعد موجودا اليوم.
سرد مها حسن متدفق؛ سلس، بلا نتوءات ولا مطبات، التخطيط للرواية محكم، والشخوص حاضرة قوية حية؛ نماذج وأنماط بشرية قد تكون قابلتها هنا أو هناك تحمل خصوصية لحظتها وتاريخها ومحنتها الداخلية والخارجية على السواء.
أكثر ما يعجبنى ويدهشنى فى إبداع مها الروائى هو تلك القدرة على إظهار مكامن الاختلاف والتفرد فى شخوص رواياتها؛ بطولتهم الحقيقية أنهم بشر عاديون؛ ليسوا أبطالا خارقين ولا ذوى معجزات ومفارقات خيالية؛ إنهم نساء ورجال حلبيون سوريون يحملون كل ما منحته لهم تلك البقعة الطيبة من أرض الله الواسعة؛ ثم يجابهون بما حدث. تأتى نهاية الرواية مع الحرب، فتنشر الأبطال الحقيقيين فى هذا العالم؛ هؤلاء الذين يواجهون «الموت» و«التهجير» و«المنافي«؛ ويغادرون أرواحهم يعانون بلاء الانتظار وهو لا يرحم لهفتهم ولا يرفق بضعفهم.
وكعادتها أيضا لا تنهى مها حسن روايتها من دون أن تفاجئنا مها وتدهشنا بلعبتها السردية فى صفحاتها الأخيرة؛ سنكتشف سر الحكاية والولع بالرواية!.
لا يفوتنى أن أنوه بالإخراج الفنى الأنيق للرواية وغلافها الجميل الذى صممته الفنانة المدهشة نجاح طاهر؛ فضلا على الدقة التحريرية والصياغية فى زمن عز فيه أن تقرأ رواية متكاملة الأركان من حيث الشكل مع سبق الإصرار والترصد؛ ولهذا فالتحية واجبة لمن لم ينس شرط الجودة والدقة والإتقان فى هذا الزمان!.
«حى الدهشة» ثمرة روائية ناضجة لعقل يعرف معنى الحرية، ولقلب لم ينس أبدا رائحة الأرض.. إنها كتابة تستحق القراءة والاحتفاء بصاحبتها التى لم تتخل أبدا عن دهشتها المعرفية والفنية فى كل ما تكتب.