لقد صعدت تركيا، التى تحتل أجزاء من شمال سوريا، من حملتها السياسية والإعلامية منذ مايو 2022 عن الإعداد والحشد العسكرى للقيام بعملية عسكرية كبيرة تستهدف بالدرجة الأولى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والتى تشكل وحدات حماية الشعب الكردية أكبر مكوناتها. ولقيت نية تركيا المعلنة بشن هذه العملية العسكرية رفضا من جانب واشنطن باعتبار أن القوات الأمريكية فى سوريا ترعى وتدرب وتسلح قوات قسد منذ سنوات، كما قوبلت الخطة التركية برفض من روسيا بحكم وجودها فى سوريا وارتباطها ودعمها للنظام السورى وما تمثله هذه العملية التركية من تحدٍ لها وما ستؤدى إليه من مزيد من التعقيدات للوضع فى سوريا. كما تلقى الرئيس التركى أردوغان أثناء حضوره القمة الثلاثية فى طهران مع الرئيس الروسى بوتين، والرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى، رفضا قاطعا من إيران، وعند لقائه مع المرشد الأعلى خامنئى حذره من أن القيام بعملية عسكرية تركية فى شمال سوريا ستزيد الوضع تأزما وتؤدى إلى تداعيات وخيمة.
وتسرب عن القمة بين الرئيس الروسى بوتين والرئيس التركى أردوغان فى منتجع سوتشى الروسى فى 5 أغسطس 2022، ما أشار إليه بوتين أنه يمكن التعاون بين أردوغان والرئيس السورى بشار الأسد من أجل التوصل إلى حل لمشكلة وحدات قوات حماية الشعب الكردية فى شمال سوريا بدلا من القيام بالعملية العسكرية التركية التى تهدد بها مواقع قسد. وقد صرح أردوغان بعد هذه القمة بأن حل الأزمة السورية سيكون أفضل بالتعاون مع حكومة دمشق وأنه أوضح للرئيس بوتين أن المخابرات التركية تعمل فعلا فى هذه القضايا مع المخابرات السورية، وأن المهم هو الحصول على نتائج. وسبق أن صرح وزير خارجية تركيا باستعداد حكومته للتعاون مع حكومة دمشق إذا هى قررت محاربة قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وهو مطلب مبالغ فيه إزاء التعاون بين دمشق وقسد لمواجهة الاعتداءات التركية.
وقد أوضح بوتين لأردوغان أنه من خلال الحوار مع النظام السورى يمكن التوصل إلى اتفاقية أضنة ثانية على نمط اتفاقية أضنة الأولى التى وقعت بين تركيا وسوريا فى عام 1998 والتى يتم بمقتضاها التعاون بين البلدين لتأمين خطوط الحدود بينهما والتى تمتد إلى نحو 900 كيلومتر، ووقف التواصل والتعاون بين الحزب الديمقراطى السورى (الكردى) وحزب العمل الكردى التركى حيث تصنف تركيا كلا الحزبين التركى والسورى على أنهما منظمتان إرهابيتان. كما ترى تركيا أن الإدارة الذاتية شبه المستقلة التى تقودها فصائل كردية سورية وتسيطر على مساحات شاسعة من شمال وشرقى سوريا تمثل تهديدا للأمن القومى التركى على حدودها.
• • •
هذا وقد تلقت المعارضة السورية فى المناطق التى تسيطر عليها قوات الاحتلال التركية داخل سوريا إعلان الحكومة التركية أنها ستعمل على إجراء حوار بين المعارضة السورية والنظام السورى فى دمشق من أجل التوصل إلى مصالحة بينهما تسهم فى حل الأزمة السورية سياسيا ــ تلقت ذلك بغضب شديد وخرجت فى مظاهرات غاضبة تندد بهذا الموقف الذى تعتبره تخليا تركيا عنها وتراجعا كبيرا عن المواقف التركية على أعلى المستويات ضد النظام السورى وعن تأييدها للمعارضة. وقام بعض المتظاهرين بإحراق العلم التركى، وإعلان رفضهم الوصاية التركية على المعارضة. وقد حاولت تركيا ترضية المعارضين السوريين الغاضبين بتعديل بيان الخارجية التركية بدلا من «العمل على المصالحة» بين المعارضة والنظام السورى، إلى «العمل على التوصل إلى اتفاق» بينهما حيث فهم بعض قادة المعارضة أن المصالحة مع النظام ستكون تحت ضغوط وتنازلات من جانب المعارضة.
وقد حاول وزير خارجية تركيا طمأنة المعارضة السورية بقوله إن المعارضة السورية تثق بشكل كبير فى تركيا التى لم تخذلها أبدا، ولكن المصالحة ضرورية للاستقرار والسلام الدائمين فى سوريا، وإن كان النظام السورى يؤمن بالحل العسكرى إلا أن الحل الدائم فى سوريا هو الحل السياسى. وسبق أن أعلن الوزير أوغلو أنه أجرى مباحثات مع وزير خارجية سوريا على هامش مؤتمر عدم الانحياز فى بلجراد فى أكتوبر 2021. وإن وصفت بأنها كانت سريعة وعابرة.
كما أدلى الرئيس أردوغان بتصريحات فى 19 /8/ 2022 أثناء عودته من زيارة إلى أوكرانيا قال فيها أن تركيا ليس لها أطماع فى أراضى سوريا، ولا تهدف إلى هزيمة أو إسقاط نظام بشار الأسد، وإنما إلى مكافحة الإرهاب الذى يهدد أمن وحدود تركيا، وأنه يجب الإقدام على خطوات متقدمة مع سوريا من أجل إفساد مخططات فى المنطقة، مع التزام تركيا بوحدة الأراضى السورية، والوقوف إلى جانب الشعب السورى باعتبارهم «أشقاء»، وأنه يجب رفع مستوى الحوار السياسى أو الدبلوماسى بينهما. واتهم الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولى للحرب على داعش بأنها هى التى تغذى الإرهاب فى سوريا بشكل أساسى بتزويد الوحدات الكردية بآلاف الشاحنات المحملة بالذخيرة والأسلحة والمعدات العسكرية، وأن النظام السورى مشارك فى دعم قسد بشراء البترول منهم وهو ما يمثل دعما ماليا للقوات التى يهيمن عليها الأكراد. وأشار إلى أن تركيا تتحمل العبء الأكبر فى قضية اللاجئات واللاجئين السوريين حيث إنها تستضيف نحو 4 ملايين لاجئة ولاجئ سورى.
• • •
سربت وسائل الإعلام عدة مطالب متبادلة بين سوريا وتركيا لفتح قنوات اتصال وحوار بينهما، حيث أبدى النظام السورى أنه يتعين على تركيا إعادة محافظة إدلب إلى إدارة النظام فى دمشق، ونقل جمارك معبر كسب الحدودى ومعبر باب الهوى إلى سيطرة دمشق، وكذلك نقل السيطرة الكاملة على الممر التجارى بين معبر باب الهوى وصولا إلى دمشق بالإضافة إلى الطريق التجارى الواصل بين شرق سوريا ودير الزور والحسكة وطريق حلب اللاذقية الدولى رقم أربعة، وعدم دعم تركيا العقوبات الأمريكية الأوروبية ضد رجال الأعمال والشركات الداعمين للنظام السورى.
وفى المقابل تطلب تركيا تطهير وحدات حماية الشعب الكردية أكبر مكونات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بالكامل، والقضاء التام على التهديد الإرهابى على الحدود السورية التركية، والاستكمال التام لعمليات التكامل السياسى والعسكرى بين المعارضة والنظام، والعودة الآمنة للاجئات واللاجئين السوريين فى تركيا إلى ديارهم.
وكشف حزب الوطن التركى اليسارى، المعارض والقريب من الحكومة التركية، عن ترتيب زيارة إلى دمشق فى سبتمبر 2022 والالتقاء مع الرئيس الأسد وقيادات حزب البعث السورى، وذلك بالاتفاق مع الحكومة التركية، وأن الزيارة تلبية لدعوة من النظام السورى وستركز على التعاون بين سوريا وتركيا فى جميع المجالات الاقتصادية والعسكرية، ومكافحة التنظيمات المتعصبة والرجعية، خصوصا الوحدات الكردية، والعودة الآمنة للاجئات واللاجئين السوريين. وقد وصف أمين عام الحزب التركى سياسة أردوغان فى شمال سوريا لتوفير ممر آمن لعودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، بأنها «خاطئة»، وأنه يمكن بالاتفاق مع النظام السورى توفير ممرات آمنة فى كل الأراضى السورية لعودة اللاجئين السوريين، وأشار إلى أنه سبق القيام بعدة زيارات إلى دمشق والالتقاء مع الرئيس الأسد وأركان نظامه منذ عام 2017 حتى الآن بعلم الحكومة التركية.
وقد استطاعت روسيا التوصل إلى قيام حوار بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والنظام السورى أسفر عن توقيعهما اتفاقا مشتركا فى يوليو 2022 للدفاع ضد هجمات القوات التركية المتكررة فى شمال سوريا ووعدت الحكومة السورية بناء على هذا الاتفاق بإرسال أسلحة ثقيلة ومعدات عسكرية لتعزيز القدرات القتالية للقوات السورية النظامية وقوات قسد فى شمال سوريا. ولم يؤد الحوار بين قسد ودمشق إلى الاتفاق بشأن بعض النقاط منها مركزية الحكم فى سوريا، حيث تريد قسد أن يكون للأكراد نوع من الاستقلالية الذاتية، ولم يتفقا بشأن هوية الدولة حيث تتمسك قسد بتضمين هوية الدولة السورية الثقافة واللغة الكردية. وتدرك قسد أنهم واقعون تحت ضغوط شديدة من جانب تركيا عسكريا، ومن جانب النظام السورى الذى يتمسك باستعادة وحدة ومركزية الدولة السورية، وبتراخ أمريكى إزاء الدور المهم الذى تضطلع به تركيا فى الأزمة الأوكرانية وعودة أهميتها فى الناتو على ضوء المواجهة مع روسيا، وتغير الأوضاع فى المنطقة العربية بصفة عامة ومع إيران.
• • •
تثور عدة تساؤلات منها ما مدى إمكانية إحراز تركيا إنجازا بإجراء حوار ومصالحة أو اتفاق بين المعارضة السورية والنظام السورى، استنادا إلى دور تركيا الرئيسى فى دعم وتأييد هذه المعارضة على مدى سنوات الأزمة السورية؟ وإلى أى مدى تتقبل المعارضة السورية التوصل إلى اتفاق مباشر مع النظام السورى، وهل سيظل قرار مجلس الأمن 2254 هو أساس التسوية السياسية التى تطرحها تركيا فى مقابل استيعاب النظام السورى لقسد وتجديد اتفاقية أضنة ثانية تضمن تحقيق الأمن والاستقرار على الحدود السورية التركية وإزالة مخاوف أنقرة من عودة التواصل والتعاون بين قوات الأكراد السوريين مع حزب العمال الكردى التركى؟ وهل ستقبل واشنطن أن تتم تسوية بين المعارضة السورية والنظام السورى بمسعى تركى ومباركة ودفع روسى بعيدا عنها وهى بين أقوى الداعمين لقسد؟ وماذا عن إيران وهل من مصلحتها حدوث تقارب بين أنقرة ودمشق ودخول منافس جديد لها فى سوريا إلى جانب روسيا؟
إن التوقيت ما يزال مبكرا للإجابة على كل هذه التساؤلات المهمة والنابعة من تعقيدات الأزمة السورية وتعدد أطرافها الإقليمية والدولية.