لم أرَ فى حياتى شعبا لديه ثقة فى ذاكرته الحضارية مثل الشعب الأرمنى فكل مواطن رأيته فى العاصمة (يريفان) هو تجسيد حى لعبارة (التاريخ الذى أحمله على ظهرى)، التى عنون بها عالم الاجتماع المصرى الراحل سيد عويس مذكراته الشهيرة.
وكل حكاية سمعتها هنا عادت بى إلى الماضى، فى صور يستحضرها الناس فى حياتهم اليومية كأنما اختاروا أن يبقى التاريخ «حيا» فهم بالاختيار ضد الروايات التاريخية المعلبة، وخبرتهم فى الشتات جعلتهم جميعا ضحايا ذاكرة الشقاء، لكنهم ليسوا أسرى لها.
بعد حوالى 30 عاما من الاستقلال يسير الأرمن بخطى واضحة نحو المستقبل يحبون أن تقول «أنتم أمة واعدة» لكنهم يسعدون أكثر لو قلت أنتم «أمة قديمة» لا يتوقف شبابها عن دراسة التاريخ، أما شيوخها فى الشتات فلم يقطعوا صلاتهم بالوطن الأم، فالهدف استرجاع الماضى أو استرداه لأن الصراع الذى عايشوه لم يكن الا على «الذاكرة».
ولا يمكن للسائر فى «يريفان» أن يتفادى فتنة الناس بالأدب والموسيقى والأغانى واللغة التى يرون أنها «كيان» أو عصب تحتاجه الأمة التى تزهو بجذورها التى تضرب فى التاريخ.
أما الحكومة فتنفذ منذ سنوات بعيدة مشروعا شبيها بمشروع «عاش هنا» الذى بدأته وزارة الثقافة عندنا وتنتشر فى المدينة مئات اللوحات الجدارية المثبتة على البيوت وفى قلبها وجوه محفورة لأصحاب الادوار الكبرى فى التاريخ الأرمنى وهى أدوار تبدأ من جامع الموسيقى الشعبية ومخترع الابجدية وأبطال الأفلام وتصل إلى قادة الاستقلال، فكل هؤلاء ساهموا فى صناعة «التاريخ الوجدانى لهذه الأمة» وهو درس آخر نحتاج إلى تعلمه من الارمن مثلما نحتاج ان نتعلم منهم الحرص على صيانة الذاكرة، فالخطوة الأولى لأى برنامج سياحى تبدأ من زيارة دار المخطوطات والوثائق التاريخية وهى بالاضافة لطبيعتها العلمية أصبحت مقصدا سياحيا يكتظ بالناس الذى لا يتوقفون عن التقاط الصور التذكارية وعبرها يحقق الارمن غرضهم فى التأكيد على حقيقة وجود «أرمينيا التاريخية»
أما الخطوة الاهم فى زيارة «يريفان» فهى زيارة متحف الابادة الذى يجسد بشكل معمارى فذ تجربة الابادة الجماعية التى تعرض لها الارمن خلال الحكم العثمانى عام 1915 وهى التجربة التى تشكل الحدث المركزى الأبرز فى تاريخ أرمينيا الحديث
وهى تجربة تذكر أيضا بتقصيرنا فى حق أسرانا الذين قتلتهم اسرائيل فى مقابر جماعية أو ما فعلته فى حق أطفال مدرسة بحر البقر، فرغم مئات الملايين التى تم انفاقها طوال نصف قرن بغرض تخليد نصر أكتوبر الا أننا لم نفكر كيف يمكن استثمار الألم والتذكير به، ففى التاريخ لا مجال للنسيان وهذا درس آخر من دروس الزيارة تجلى فى دموع «أنوش» المترجمة الشابة التى رافقتنا لكنها لم تستطع اكمال الجولة فى متحف الإبادة وقالت «فى كل مرة أكون هنا، لا يمكن لى أن أنسى أشلاء أجدادى».
درست «أنوش» اللغة العربية وأحبتها وتعمل بها وتحلم أن تذهب إلى دبى لعامين لتتمكن من توفير نفقات تعليم ابنتها الوحيدة وتسمع أغنيات كاريوكى والشيخ أمام وتطلب فى كل مرة تلتقى فيها مع مصريين المساعدة فى اقناع السلطات بالاعتراف بالمذبحة التى تعرض لها الارمن وتقول بلكنة مصرية ممتعة: «كمل جميلك يا سيسى»، فى اشارة إلى الكلمة التى قدمها الرئيس فى قمة ميونخ خلال فبراير الماضى، وألمح فيها إلى دور مصر فى احتضان الأرمن عقب المذبحة التى راح ضحيتها حوالى مليون ونصف المليون أرمنى لا تزال ذكرياتهم حية فى المتحف، تريد أنوش اعترافا انسانيا وليس سياسيا، اعترافا مؤسسا على معايير حقوق الإنسان والقانون الدولى وليس الكيد السياسى لتركيا.
تريد منا أن نتعلم من مقولة سوزان سونتاج الفيلسوفة والروائية الأمريكية الراحلة عن «الالتفات إلى ألم الآخرين».