من نافل القول إن كتاب «النساء العربيات والمرجعيات فى ظل الرقمنة وفوضى المعلومات» (كتاب مختص أصدره تجمع الباحثات اللبنانيات، وهو الكتاب التاسع عشر عن عامى 2023 - 2024 الذى تولى نشره مركز دراسات الوحدة العربية)، سيبقى فى دائرة العصف الفكرى بعد الصدور، «إثر جلسات العصف الفكرى التى اعتادت الباحثات اللبنانيات إجراءها». فمضامين أبحاث الكتاب معقدة، متنوعة، مثيرة للجدل كقضايا النساء منذ الخليقة، ولادة تساؤلات، وممتدة فى الزمن كامتداد التطور التكنولوجى السائر كطرفة عين، أشبه بحقل مزروع بألغام اجتماعية، جندرية، سيبرانية، ثقافية.
والبديهى فى طرح افتراضنا هذا، كم من الأسئلة رافقت النصوص ونبعت منها، بما يحتمل دعوة التحضير لكتاب ثانٍ يستكمل أبواب النقاش لأهمية أجندة النساء العربيات. قد تكون «الرقمنة» أهون المثار من بينها، فما الحال مع تبعات الحروب عليهن، وتراخيهن فى عالم تطور الوعى والمكتسبات، إلى محاولات ترسيم القديم، الجديد، المتجدد: النسوية كعالم له عوالمه!
من هذه الخلاصة تكر سبحة أسئلتنا: هل يمكن أن ينفك العالم الواقعى عن الافتراضى؟ وماذا لو لم يقتصر كتاب تجمع الباحثات اللبنانيات على النساء والرقمنة، فهل كان لنتائجه أن تأتى مختلفة؟ باعتبار أن الرقمنة وثورتها عاثت سلبًا وإيجابًا بالفرد لأى فئة عمرية أو بيئة (ريفية أو مدينية) انتمى؛ وهل يعنى استخدام ما أنتجته الثورة الرقمية إنجازا فى مسيرة الحضارة الإنسانية، ثقافيًا واجتماعيًا، لا سيما أن الشرط الأخلاقى لهذا الاستخدام بات على محك خداع الإنسان وفنائه معنويًا وجسديًا؟!
• • •
نشير فى هذا الصدد إلى كثرة ما تزخر به النصوص من تصريح عن هذه المخاطر ومن تلميح إليها، أى نسبية المعطى الإيجابى للثورة الرقمية على النساء. هذا ما قرأناه فى استنتاج نصر الدين لعياض بقوله "إن تبدل المرجعيات أثقل على النساء منه على الرجال"، وفى توقف رفيف رضا صيداوى عند مسألة جوهرية تتعلق ببقاء حقوق النساء فى إطار الشعارات "فى زمن التوق إلى بناء الدولة الوطنية أو القومية بعد الاستقلالات إسوة بدول الغرب الديمقراطية جراء الانخراط فى الحداثة". والحداثوية التى قاربتها زينب خليل من زاوية بحثها بعنوان "طالبات جامعيات متحدرات من الأرياف: بين البيئة الجامعية والبيئة الرقمية" جعلتنا نطرح السؤال الأبرز: طالما أن الشبكة العنكبوتية وما نتج منها وعنها من وسائل تواصل قد تسللت إلى كل البيوت بتنوع توجهاتها، والمناطق بكل تضاريسها، ألا يكون طرح الموضوع بالتساوى بين امرأة ريفية وأخرى مدينية طرحا غير آمن؟! بمعنى أن تحصل طالبات الريف من الثورة الرقمية بات متوافرًا، كما لو أنها فى قلب أية مدينة، فى حين أن مسألة انعكاس هذه الثورة لن توفر للريفية كما للمدينية النتائج ذاتها، باعتبار أن الصدمة الثقافية والاجتماعية فى كلتا الحالتين لن يكون بتأثير الثورة الرقمية، إلا من بعض جوانب مشتركة، مع أن خليل أشارت إلى إشكالية الدراسة عبر طرح السؤال عن الدور الذى أدته كل من المعلومات المكتسبة عبر الإنترنت والبيئة الجامعية فى علاقة الطالبات القادمات من الأرياف وبيئتهن ومرجعياتها.
وفى حين أعادت بيسان طى إلى الخبير التكنولوجى «جيف بيركو فيتشى» مصطلح «السوشيال ميديا» فى تسعينيات القرن العشرين، فإن «القوقعة» مثلت محور بحثها «بما يؤدى إلى حصر المستخدمين فى غرف الصدى»، واستنتجت أن اختلاف قواعد خوارزميات المنصات بعضها عن بعض هو ما يفسر اختلاف المعروض أحيانا، بل اختلاف الرقابة فى أحيان كثيرة، وفى هذا المضمار، فإن المثال الأقوى نعرفه من التجربة المؤلمة التى عايشناها فى منطقتنا العربية خلال العدوان الإسرائيلى «الوحشى» على قطاع غزة منذ 21 أكتوبر 2023 مستمرا فى العام 2024 وفق ما وثقته تقارير جهات مختصة، فإن شركة ميتا المالكة لمنصتى فيسبوك وإنستجرام فرضت رقابة شديدة على المحتويات المناصرة للفلسطينيين والفاضحة لوحشية العدوان الإسرائيلى ضدهم فتم تقييد بعض المحتويات وإقفال بعضها، لتعود وتطرح السؤال مجددًا: أى أفق بلغت النساء فى تحررهن من الأطر التقليدية عبر أدوات محددة هى وسائل التواصل الاجتماعى؟ وتجيب بما قاله العرب قديما فى أن كل امرئ يميل إلى شكله!
علامة فارقة بين الأبحاث
وفى سياق قواعد خوارزميات المنصات، شكل نص تغريد السميرى «مشوار ستى: ترحال الذاكرة الفلسطينية فى الفضاء الرقمى» علامة فارقة بين الأبحاث المنشورة، لجهة توقفه عند إيجابية الرقمنة؛ إذ تشير إلى إفادة النساء الفلسطينيات من وسائل التواصل الاجتماعى والعالم الافتراضى «لأن هؤلاء النساء انتقلن من جيل أسلوب التعبير الشفوى بسرد ذكرياتهن كمرجعية» لدى الجيل الأول للنكبة، وقررن اقتحام الفضاء الرقمى ليعدن «بناء الذاكرة الفلسطينية وإحياءها أيضًا»، وذلك عبر «الذاكرة الناعمة»، على حد تعبير تغريد السميرى، التى جاء عرضها لبرنامج «مشوار ستى» الذى قدمته الفنانة الطبيبة الفلسطينية دلال أبوآمنة متوافقًا مع ما نقلته رانية جواد ومادلين الحلبى من «شهادات حية كتبتها نساء فلسطينيات يروين من خلالها تجربتهن فى استخدام وسائل التواصل الاجتماعى لإسماع أصواتهن»، وكيف أن الغزاويات يتحايلن على سياسات المنع فيسعين إلى رفع التعتيم وسرد يومياتهن.
ما جاء فى نصوص كل من السميرى وجواد والحلبى يفضى بنا إلى طرح السؤال التالى: إذا كانت المرجعية الرقمية قد أكدت فعاليتها، فلماذا تتعامل النساء العربيات فى أوساط كثيرة مع العالم الافتراضى بالقليل من الجدية والكثير من الاستهلاكية والاستعراضية؟ قد يتوافق سؤالنا هذا مع استنتاج مود أسطفان هاشم فى بحثها «إسهامات النساء فى الأبحاث المتعلقة بالسلوك المعلوماتى: تجديد فى المقاربات»، إذ تقول عن دور النساء العربيات: «يبدو أن تأثيرهن ما زال ضعيفًا، إذ بقيت أغلبية الدراسات فى المنحى التقليدى تتمحور حول استخدام مصادر المعلومات، لا سيما الشبكات الاجتماعية، وغالبًا ما اقتصر تحليل السلوك المعلوماتى على أثر متغير الجندر مع غيره من المتغيرات»، مبررة ذلك بأنه يعود إلى حداثة هذا العلم وأصوله المهنية والعملية كما إلى هيمنة المقاربة التكنولوجية عليه، ومستدركة أن بعض الدراسات مثلت بوادر تجديد.
ربما يتقاطع هذا الاستنتاج مع سؤالنا أعلاه وما خلصت إليه هاجر خنفير التى قللت «من دور النساء فى صناعة محتوى مؤثر.. تحديدًا النساء العربيات»، لتستنتج وتقول «يتجلى لنا وبيسر، من منظور نسوى تكنولوجى، أن صناعة المحتوى لدى المؤثرات العربيات وامتلاكهن أدوات التكنولوجيا لم يسمح لهن بتغيير الصورة النمطية للأنوثة لكونها معطى استهلاكيا لا غنى للسوق عنه».
أما بحث لمى كحال بعنوان «صانعات محتوى لبنانيات على مواقع التواصل الاجتماعى: اليد الطولى لمرجعية السوق»، فيجعلنا نستنتج أن ما خلصت إليه يتماهى مع عدد من أبحاث الكتاب حول سيطرة التكنولوجيا التى تجعل المحتويات فى خدمة أصحابها من الرأسماليين، فيما استخدامات النساء المؤثرات تشير إلى غياب القضايا الإنسانية والاجتماعية العامة فى السياق اللبنانى. تقول لمى كحال: «نتلمس عمق الهوة بين الواقعى والافتراضى، ذلك أننا لم نجد حسابا واحدا مخصصا للحديث عن فلسطين والحرب على غزة ضمن العينة التى درسناها»، وتضيف: «قد يكون هناك ذكر عابر لغزة فى صفحة مايا حسين على انستجرام، وهى تدعو الناس لمقاطعة البضائع الداعمة لإسرائيل من دون أن يتعدى الموضوع ذلك».
فى بحثها «صانعات المحتوى فى مصر وموجات التضامن مع غزة: بين الواجب الإنسانى والدينى وشروط السوق»، يتشابه ما توصلت إليه دينا الخواجة مع استنتاج معظم الأبحاث حول ممارسة الرقابة والمنع من «الشركات الممولة» لصفحات صاحبات المحتوى لإسكات أصواتهن.
أما فى المحور الثالث من الكتاب بعنوان «تحديات تفلت النساء من المرجعيات فى البيئة الرقمية»، فتبرز عزة الحاج سليمان فى بحث قانونى كيف استطاعت النساء أن يفعلن وجودهن من خلال الوسائط الرقمية، ولكنهن «وجدن أنفسهن ضحية لأدوات السوق». ولفتت زهور كرام إلى «التحديات الجديدة لنساء المغرب»، فيما حملت إصلاح جاد «نجاح الحملات الدينية ضد اتفاقيات سيداو» مسئولية عدم نيل المرأة الفلسطينية حقوقها. وأضاءت إيمان كنعان على «مكاسب المرأة من معلومات الصحة الإنجابية». واستخدمت كلثم غانم «منهجية مراجعة الأدبيات لتحليل العناصر البصرية والثقافية العامة فى قطر، وتحديدًا اللوحات الإعلانية وآثار ثقافة الاستهلاك فى صور المرأة».
وكانت للمحور الرابع من الكتاب شهادات لسبع نساء خضن عالم الثورة الرقمية: سوسن جميل حسن، نجلاء حمادة، آمال حبيب، جميلة جابر، ناتالى إقليموس، ومنى سكرية.
منى سكرية
مؤسسة الفكر العربي
النص الأصلي
https://bitly.cx/85UxO