يرتكز الفعل الأخلاقى على الإرادة الحرة -على الرغم من محدوديتها- والإمكانات المتجددة لاختيار الإنسان بين الخير والشر؛ فلا مجال لحديث عن حياة أخلاقية زاخرة بالمسئولية والواجب والإلزام والعيش فى سلام إلا إذا تحققت الحريّة الإنسانية كشرط جوهرى. فكيف يتم التمييز بين الخير والشر؟ وهل نحن نتصرف حقا بحرية مطلَقة؟
على الرغم من تأكيد الفيلسوف الألمانى البارز «إيمانويل كانط» بوجود ميل طبيعى لدى الإنسان نحو الشر، إلا أنه رأى أن ذلك لا يتعارض مع حرية الإرادة المؤسسة للمسئولية الأخلاقية. ففى كتابه «الدين فى حدود العقل وحده»، طرح مفهوم «الشر الجذرى» - المتأصل فى الطبيعة البشرية، وميلنا نحو تحقيق مصالحنا الخاصة على حساب القوانين الأخلاقية. فهذا الشر يتبدى حينما لا يتوافق ما يرغب فيه الإنسان (إرادته) مع ما يمليه عليه القانون الأخلاقى، أى أن الإنسان يدرك الفارق بين الصواب والخطأ، ويختار عن قصد ما يلبى احتياجاته ومتطلباته ومصلحته الشخصية بعيدا عن الواجب الأخلاقى، وبالتالى فالنوايا والدوافع أيضا تكون جوهر الأفعال، وبفساد النوايا يكون الفعل شريرا، والإرادة فاسدة. ويضع «كانط» نسقا متصاعدا لتلك الإرادة الفاسدة، فهناك الإرادة «الهشة» التى تدرك الفرق بين الخير والشر، والصواب والخطأ، لكنها أضعف من التوجه نحو الاختيار الصائب والسليم؛ وهناك الإرادة «الخبيثة» التى تتلون دوافعها بين المصلحة الشخصية المنسجمة مع الفعل الصائب، أى تختار الفعل الأخلاقى، نظرا لتوافقه مع مصلحتها ورغبتها أو بدوافع أخرى غير أخلاقية؛ فالفعل الظاهرى يبدو أخلاقيا، لكنه ملوث بدوافع غير نزيهة فى حقيقة الأمر. وأخيرا، ثمة الإرادة «الخسيسة» التى تحب ذاتها حبا جما، يفوق كل فعل أخلاقى قد يضر أو يعرقل أهدافها، وهذا الأخطر، فيضع الإنسان مبادئه الذاتية فوق القانون الأخلاقى برمته. والفرق الكامن بين درجات هذا النسق، يتمثل فى مدى انحراف الإرادة عن القانون الأخلاقى، ومدى وعى الإنسان بذلك. ففى الأولى، هناك وعى بالواجب الأخلاقى، لكن مع عدم القدرة على الالتزام به. وفى الثانية، هناك التزام ظاهرى بالقانون الأخلاقى، لكن الدوافع تكون غير نزيهة. أما فى الأخيرة، فهناك انقلاب مُتعمد فى ترتيب القيم، بحيث تصبح المصلحة الذاتية هى المبدأ الأساس. إذن، كيف يتسنى للإنسان الخروج من ربقة هذا الميل أو النزوع نحو الشر؟
لم يظهر تعريف واضح -فى رؤية كانط- لحل هذا الإشكال، سوى "المقاومة"! فالإنسان يمكنه التخلص من هذا الميل نحو الشر مستنداً إلى العقل والإرادة الحرة والالتزام الأخلاقي! أولا، يدرك الفرد هذا الميل وخطورته المسببة لاختيارات غير أخلاقية، ثم، ثانياً، يسعى إلى الإصلاح الذاتى بإعادة ترتيب الأولويات، فيصبح القانون الأخلاقى أعلاها. وأخيرا، يفحص باستمرار دوافعه (التفكير النقدي) ليتأكد من اتفاقها مع الواجب الأخلاقى المحض، ويتشبث به، فيصبح كائنا أخلاقيا ذا إرادة طيبة! هذا بخلاف النشأة الأخلاقية التى قد تحسن وتسهم فى تقوية الإرادة.
• • •
التخلص إذا من النزوع الطبيعى نحو الشر يتطلب التزاما أخلاقيا عميقا ومستمرا، يبدأ بالوعى الفردى الكامل بالمشكلة وتشابكاتها، والاعتراف بها، ثم الإقلاع عنها، والتقويم الذاتى الدائم إزاءها، مع إدراك أن هذا الصراع وتلك «المقاومة» هما جزء أصيل من الحياة الأخلاقيّة. وهذا يختلف قليلاً عن رؤية فيلسوف مدرسة فرانكفورت، الألمانى أيضا، وعالِم الاجتماع «ثيودور أدورنو»، من القرن العشرين. فالإرادة الحرة لا يمكن فهمها بمعزل عن السياق الاجتماعى والتاريخى؛ لأن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تؤثر على حرية الأفراد وتشكل وعيهم وسلوكهم، ومن ثم يشكك فى وجود إرادة فردية حرة صرفة.
بيد أن «أدورنو» لم يتطرق إلى مفهوم الإرادة الحرة على نحو واضح وتقليدى، لكنه كان شديد الاهتمام بتأثير «البنى» الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية على الفرد. فنحن نحيا فى واقع «غير عقلانى»، يشوبه «التشوه»، ما يؤثر بالضرورة على الإنسان واختياراته وتوجهاته ومواقفه، وربما يتعرض للخضوع إلى الهيمنة أو «الاستلاب». وبالتالى، الوعى بهذا التأثير السلبى، وقدرة الإنسان على التخلص من ربقته، ونقده الذاتى المستمر، يجعله مسئولا بالفعل عن «التكليف» أو تحمل المسئولية الأخلاقية.
• • •
يرى «أدورنو» أهمية قصوى لدور «الفن» فى حياة الإنسان؛ فالفن الناقد يحرر الإنسان من ربقة الهيمنة السياقية، فيمكن له الكشف عن قبح هذا العالم والقهر المستشرى فيه، فيساعِد الفرد على استعادة حريته الأخلاقية. كما شدد على أهمية دور «التعليم» فى تكوين الوعى الأخلاقى، تعليما شيقا وشاقا، يحتم تحرر الأفراد من القولبة والأدلجة، ومن تلقينهم أفكارا جامدة.
على هذا النحو، يهدف كانط إلى تحقيق نظام أخلاقى يعتمد على المبادئ العقلية الثابتة، الكلية والمطلقة. أما أدورنو، فكان هدفه تحقيق وعى نقدى وإصلاح اجتماعى. وبالتالى، يمكن القول إنهما يقدمان رؤى مختلفة ومتكاملة حول جدل الإرادة الحرة والمسئولية الأخلاقية. فبينما يؤكد كانط على العقل والاستقلالية الفردية كأساس للأخلاق، يشدد أدورنو على أهمية الوعى النقدى والتأثيرات الاجتماعية فى تشكيل الإرادة والأفعال الأخلاقية.
• • •
تأتى الفيلسوفة السياسية المناضلة حنة أرندت (ألمانية أمريكية) فتتحول الرؤية من التصورات المختلفة عن الشر الجذرى إلى واقعية «تفاهة الشر»، ذلك الناجم عن فقدان الأنا/ الذات المنصهرة فى الحركة الشمولية أو النظام الشمولى.. حيث يقتضى الولاء التام غير المشروط من قبل المناضل الفرد إزاء حركته التى ينتمى إليها، فيتحول من فاعل ذى رأى وإرادة إلى مفعول به لا حول له.
فى كتابها «حياة عقل» رأت أرندت أن الإرادة هى بمثابة قوة جبارة وهائلة داخل الإنسان، تمكنه من الاختيار واتخاذ القرارات المستقلة، قوة لا تقف بين بديلين فحسب، بل تمكنه من بدايات جديدة بكليتها. وحينما يتحول الإنسان من فاعل إلى مفعول به يخسر إرادته وقوته تلك.
المسئولية الأخلاقية تستند إلى التفكير النقدى، والقدرة على التمييز بين الخير والشر، والقدرة على الحكم الأخلاقى أو التمييز بين الصواب والخطأ، والفعل الواعى الحر... إنها عناصر جوهرية تشكل الأساس فى تحمل الأفراد مسئولياتهم تجاه أنفسهم والمجتمع. ولو كانت حنة أرندت قد شاهدت ما يحدث اليوم من جرائم فى فلسطين، لطرحت تساؤلات عدة عن النزعة الاستعمارية الاستيطانية التى تعبر عن شر بنيوى فادح، وعن غياب العقل والعدل، واستغلال الدين والسياسة، والتجرد من الإنسانية.
إن الإرادة الإنسانية الحرة والمسئولية الأخلاقية ليست مفاهيم ثابتة، بل هى عمليات ديناميكية تتطلب نقدا مستمرا واستعدادا للتغيير، وطرقا إبداعية للتكيف مع التحديات المتجددة وكيفية معالجتها. وهى ليست مجرد أهداف نسعى إلى تحقيقها، بل عمليات متواصلة تستدعى وعيا نقديا ونضالا دائما، من أجل تسييد العدالة والمساواة والحرية الحقيقية للأفراد والمجتمعات، وبخاصة فى ظل عصر الثورة الرقمية والأنظمة الذكية التى تكاد تقضى على جوهر الإنسان ووجوده.
رشا ماهر البدرى
مؤسسة الفكر العربى