محمد كامل حسين.. «الرائد المجهول» - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 4:39 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محمد كامل حسين.. «الرائد المجهول»

نشر فى : الجمعة 25 مارس 2016 - 9:50 م | آخر تحديث : الجمعة 25 مارس 2016 - 9:50 م
كنت وأنا فى الجامعة من المولعين بمادة «أدب مصر الإسلامية»، لم أرها أبدا مادة جافة أو محض معلومات صماء ترص بجانب بعضها البعض وبضعة تواريخ وأرقام علينا استظهارها وكان الله بالسر عليما، بل كانت مدخلا مدهشا ومبهرا فى الوقت ذاته للتعرف على فترة شديدة الخصوبة والحيوية فى تاريخنا الوسيط. كانت المرة الأولى التى أتوسع فيها بحثا عن مصادر تلك الفترة (منذ دخل عمرو بن العاص مصر فى القرن السادس الميلادى وحتى سقوط دولة المماليك على أيدى سليم الفاتح)، وكانت الأولى أيضا التى أقرأ فيها شيئا للمرحوم الأستاذ الجليل محمد كامل حسين، فصولا من كتابه الموسوعى الفريد «الحياة الفكرية والأدبية بمصر من الفتح العربى حتى آخر الدولة الفاطمية».

من حينها اتصلت بينى وبين كتب العلامة كامل حسين أسباب وأواصر، واكتشفت أن سيرة الرجل تكاد تكون مجهولة تماما، لا يعرفه إلا دائرة ضيقة ومحدودة للغاية من بين الأكاديميين والمشتغلين بالبحث فى تاريخ تلك الفترة، خاصة وأن هناك محمد كامل حسين«آخر» طغت شهرته وطبقت الآفاق وغطت بالكلّية على اسم صاحبنا هذا، فكاد لا يعرفه أحد حتى الآن.

فعند ذكر الاسم ثلاثيا «محمد كامل حسين» يتبادر إلى الأذهان فورا صاحب الرواية الشهيرة «قرية ظالمة» و«الوادى المقدس» (نشرا عن دار الشروق فى طبعات متعددة)، وقد كان أديبا ضليعا فى علوم اللغة العربية رغم أنه كان أستاذا رائدا من أساتذة طب العظام فى مصر، وكان عضو مجمع اللغة العربية فى الوقت ذاته.

أما صاحبنا «محمد كامل حسين» الآخر، فهو رائد مجهول من رواد الدراسة الأدبية والتاريخية فى ثقافتنا المعاصرة؛ تلميذ نجيب من أنبغ وأنبه تلاميذ العميد طه حسين، وأول من تخصص فى أدب مصر الإسلامية، وأصبح أول أستاذ لهذا الفرع من الدراسة بكلية الآداب جامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول آنذاك).

سيرته تنطوى على كثير من الحلقات المفقودة ويشوبها الغموض بكثافة، وإن كان أحد الأفذاذ الذين تفرغوا لدراسة الأدب المصرى فى العصور الإسلامية، ومنه إلى الانغماس الكامل فى دراسة تاريخ وتراث الفاطميين (ومذهبهم الدينى الباطنى) الذى أفنى فيه عمره وترك وراءه كنزا حقيقيا من الكتب والمؤلفات والتحقيقات التى لم يتسن لغيره إنجازها.

حصل محمد كامل حسين على الماجستير عام 1935م، عن رسالته «الأدب العربى بمصر من الفتح الإسلامى إلى دخول الفاطميين» تحت إشراف طه حسين، ثم حصل على درجة الدكتوراه عام 1941م، عن رسالته «المؤيد داعى الدعاة: حياته وديوانه»، وكانت تحت إشرافه أيضا..

طبعت رسالته للماجستير فى كتاب فريد وغير مسبوق؛ هو «الحياة الفكرية والأدبية بمصر من الفتح العربى حتى آخر الدولة الفاطمية» (وللأسف لم يطبع هذا الكتاب منذ زمن بعيد جدا.. ويكاد يكون غائبا عن المكتبات الكبرى ودور البحث)، وعنه يقول صاحبه فى مقدمة كتابه الموسوعى الآخر «أدب مصر الإسلامية فى عصر الولاة».

«وهذا البحث قديم، فقد كتبته لأول مرة سنة 1934م، وتقدمت به إلى كلية الآداب بالجامعة المصرية ــ إذ ذاك ــ وحصلت به على درجة الماجستير فى الآداب مع مرتبة الشرف، ولما عهد إلى بتدريس الأدب المصرى بكلية الآداب قدمته للمطبعة 1939م بعد تغيير بعض فصوله وبعض آرائه».

وذكر فى مقدمة الكتاب ذاته أن «هذا الكتاب بحث من أبحاث أرجو أن أوفق إلى إتمامها وهى البحث فى الأدب المصرى الإسلامى منذ دخل العرب مصر إلى الآن، فقد تحدثت فى هذا الجزء عن تطور مصر فى عصر الولاة أى من الفتح الإسلامى إلى دخول الفاطميين، وهو عصر غامض أشد الغموض، والمصادر التى بين أيدينا قليلة والنصوص متفرقة مبعثرة، ومع ذلك استطعنا استخلاص ما يمكن استخلاصه، وتحدثنا عما أمكننا الحصول عليه.. أما الجزء الثانى من هذا الكتاب فسيكون عن (أدب مصر الفاطمية)..».

ربما ومنذ ظهور هذا الكتاب تحدد المشروع العلمى والبحثى للرجل، أفنى عمره فى إنجازه وترك وراءه مكتبة زاخرة ورفيعة من المؤلفات الممتازة فى حقل الدراسات الأدبية والتاريخية المعنية بمصر الإسلامية.

استكمل محمد كامل حسين مشروعه الطموح فى التأريخ لأدب مصر الإسلامية فى كتابه العمدة «فى أدب مصر الفاطمية» الذى صدرت طبعته الأولى عام 1950 بعد أن اكتملت ملامح أستاذيته، وتبلور مشروعه الطموح فى درس أدب مصر الإسلامية على تعاقب عصوره واختلاف أطواره، ممهدا له بمجموعة من الدراسات والأبحاث التى نشرها مفردة فى مناسبات علمية، منها دراسته المهمة «نظرية المثل والممثول وأثرها فى الشعر الفاطمى»، وهو البحث الذى ألقاه فى مؤتمر المستشرقين بباريس عام 1948م.

وكتاب «فى أدب مصر الفاطمية» (لحسن الحظ ظهرت منه نسخة إلكترونية حديثة عن مؤسسة هنداوى للعلوم والثقافة) هو أهم وأكبر مرجع يغطى تلك الفترة، جمع نصوصا عديدة ونادرة واعتمد فى مادته على مصادر لم يتسن لغيره الوصول إليها، وهو يعطى صورة صحيحة لتلك النزعة الدينية التى تمايز بها عصر الفاطميين عن غيره من عصور مصر، فقد خضعت مصر لهذا المذهب الدينى. واتخذها أئمة هذا المذهب قاعدة ملكهم فأصبح هذا المذهب هو المحور الذى تدور عليه الحياة المصرية من اجتماعية وسياسية وفكرية وأدبية بحيث لا يستطيع أن نعرف حقيقة هذه الألوان المختلفة من الحياة المصرية فى عصر الفاطميين إلا على ضوء هذه الفرقة من فرق المسلمين.

ومهّد محمد كامل حسين لكتابه بدراسة الفكر الدينى والعقيدة الدينية التى سادت وانتشرت خلال فترة حكم الفاطميين لمصر وهى العقيدة الشيعية الإسماعيلية، وتوفر على دراسة كل ما أمكنه الحصول عليه من مصادر ومخطوطات تتصل بتلك الفترة وبذل جهدا خارقا فى استقصاء وتتبع مخطوطات الفاطميين اضطرته السفر إلى بلدان عديدة وبذل جهدا كبيرا ومالا وافرا فى سبيل الحصول على تلك المخطوطات النادرة، وظفر منها بطائفة كبيرة نشر عددا لا بأس منها فى سلسلة (مخطوطات الفاطميين) التى أخرجها تحت إشراف صديقه المؤرخ الكبير أحمد عزت عبدالكريم.

عن رحلاته تلك ودأبه غير الطبيعى فى تتتبع مصادره، يقول الدكتور أحمد عزت عبدالكريم«وقد استطاع الدكتور محمد كامل حسين بوسائل مختلفة ــ وله فى ذلك قصص شائقة ــ استطاع أن يجمع لنفسه طائفة كبيرة من الكتب والرسائل المخطوطة فى تاريخ الفرقة الإسماعيلية وعقائدها، قل بل ندر أن توافرت لغيره من الباحثين فى هذا الحقل»، وقد نشر من تلك المخطوطات طائفة كبيرة. كما كتب خلال تلك الفترة دراستين من أهم الدراسات التاريخية فى تاريخ المذاهب والفرق الإسلامية، أولاهما عن «الإسماعيلية تاريخها نظمها عقائدها»، والأخرى عن «طائفة الدروز تاريخها وعقائدها» التى نشرت عام 1962، بعد وفاته بعام واحد.

بلا شك كان للدكتور كامل حسين فضل الكشف عن كثير من غوامض وأسرار هذه الفترة ودقائقها، خصوصا أن المصادر التى تتناول هذه الفترات التاريخية وقت درسها المبكر بالجامعة المصرية كانت شحيحة جدا وغير ميسورة، وما كان متاحا منها لم يكن يشفى غلة أو يسد كبير فراغ فى البحث العلمى، وكذلك النصوص التى تتناولها متفرقة ومبعثرة..
تحية ووفاء لهذا الرائد العظيم..