أعود فأسألهم ماذا جنيتم أو جنت مصر على أيديكم خلال السنوات الثلاثين الماضية؟ أسأل العشرات وربما المئات، ومنهم قادة فى النخب السياسية والإعلامية والثقافية، قضوا تلك السنوات يبشرون بسلام من نوع يفرض فرضا، سلام ينفذ ولا يناقش، ينزل قضاء مبرما وقدرا مكتوبا لا يحق لحاكم عربى أو لشعبه أن يغيره أو يطالب بتخفيفه.
سألت الشبان، الجيل الذى ولد وعاش فى ظل حملات مدروسة لغرس هذا السلام فى نفوسهم البريئة، سألتهم عن السلام. ماذا يعنى لهم وكيف وجدوه على أرض الواقع بعد أن نضجوا وخرجوا يبحثون عنه فى ركام الكبرياء. عرفوه ذلا ومهانة فى كل مرة خرجت طائرات إسرائيل لتقتل أصحاب الأرض فى فلسطين وأصحاب العزيمة فى لبنان، ولم يخرج صوت مسئول مصرى ينطق بكلمة حق أو يذكر بروح السلام العادل. لم تتحرك مصر لأنها اختارت جانب السلام وتركت إسرائيل تختار جانب الحرب وكلاهما طرفان فى اتفاق سلام واحد. حرب هناك وسلام هنا يعملان معا فى تناغم ورضاء متبادل لصنع سلام إقليمى، بينما الحقيقة الناصعة تشى بهدف أوحد وهو ضمان أمن شعب إسرائيل ولو تطلب هذا الأمن سحق كرامة جميع شعوب المنطقة وفى مقدمتها كرامة شعب مصر.
يجيب الشبان بسخرية صاخبة. قال لنا كبار كتاب مصر وعلماء السياسة فيها وأولو الأمر إن السلام الذى وقعنا عهدا بالتزامه يعادل الرخاء. تلفتنا لنبحث حولنا فى بيوتنا ومحالنا وأعماق ريفنا فلم نجد الرخاء. عرفنا بعدها أن السلام الذى غرسوه فينا يعنى الفقر والذل والجهل والمرض والهجرة وربما كان يعنى أيضا الموت غرقا فى البحر. قالوا لنا كذلك عن سلامهم إنه يعكس حبهم للوطن وتقديسهم للوطنية المصرية إلى أن جاء يوم اكتشفنا فيه أن الوطن المحبوب سرقوه وان الوطنية المصرية التى ادعوا تقديسها داسوها بأقدامهم وطرحوها فى أسواق الرهونات والمزادات. وقالوا إن السلام حضارة وتقدم فوجدناهم فى ظل السلام وباسمه يمارسون تعذيب خصومهم بأساليب العصور الوسطى وبعقلية المتخلفين والأقدمين.
زعموا إنه بالتطبيع تكسب مصر عطف شعب إسرائيل، وهو حسب رأيهم الشعب المحب للسلام بحكم ما قدم من تضحيات عبر التاريخ وهو أيضا الشعب الديمقراطى الطبع والمزاج. هؤلاء، مثل كثيرين بين من نعرف من العاملين فى بعض مراكز البحوث الأمريكية، يعيشون حالة إنكار دائم. لن يعترفوا لأنهم تطبعوا بطباع الاسرائيليين وتفهموا أغراضهم ويعيشون معهم آلام المحرقة وذكرياتها ،متجاهلين أو ناكرين وقوع محارق أخرى ارتكبها قادة الحركة الصهيونية والدولة الإسرائيلية عبر العقود. لا تكدر مزاجهم حقيقة أن الشعب المحب للسلام ينتخب ويدعم حكومات تنفذ عمليات إبادة وقتل وتشريد، أو أن هذا الشعب الديمقراطى الطبع يميز ضد المواطنين من أصول غير يهودية فى التعليم والصحة والإسكان، وها هو يطلب منهم الآن ما لم يطلبه أدولف هتلر، عدو اليهود اللدود، من الشعوب التى أخضعها لحكم الرايخ أو هيمنته.
قالوا وقالوا. إلا أن أهم وأخطر ما قاله المقتنعون بنوايا إسرائيل السلمية، وأصبح البعض منا يردده بألم شديد والبعض الآخر يردده بيأس متناه، هو أننا لا نقوى الآن ولن نقوى فى المستقبل، ولم نمتلك الشجاعة فى الماضى ولن نمتلكها فى المستقبل، حتى نطلب بوضوح واصرار تغيير بعض مواد الاتفاقية اللعينة. نقول الآن وتردد معنا الملايين إننا قادرون بفضل هذه الثورة على تحدى العقلية الصهيونية العدوانية وقادرون على قهر الذل والمهانة.
ما زال يعيش بيننا دبلوماسيون وعسكريون عظام حذروا قبل ثلاثين عاما أو أكثر من عواقب وضع قيود على السيادة المصرية فى سيناء. سمعت أحدهم يقول وقتها إن الجيل القادم لن يقبل بهذه القيود وسوف يثور مطالبا بإزالتها، واستطرد قائلا، وفى حال لم تلغ أو تعدل أو تصحح سيأتى جيل آخر لن يكون أقل بأسا وعزيمة ومزودا بأدوات أخرى غير التظاهر السلمى مطالبا بتمزيق الاتفاقية. أتطلع حولى فأرى الجيل الذى انتظره صديقى يعلن بكل صرامة أنه لن يقبل باستمرار القيود على السيادة المصرية ولن يقبل بأقل من استعادة كبرياء هذا الوطن.
يدرك المسئولون عن إدارة مفاوضات مصر فى المرحلة الراهنة حق الادراك ضخامة العقبات الدولية والإقليمية التى يمكن أن تعقد مهمتهم، ولكنهم يدركون أيضا حق الادراك ضخامة الرصيد الذى يمكن أن يعتمدوا عليه فى التخطيط لمفاوضاتهم وسياساتهم الخارجية والتغلب على هذه العقبات. هذا الرصيد هو الثورة الناشبة فى مصر وهذه الغضبة الرهيبة التى كشف عنها جيل جديد. لقد قالت مصر على مدى الأيام الأخيرة وبأعلى صوت فيها، صوت الشباب، إنها لا تريد أن تعود إلى الاتفاقية إلا بعد أن تعود سيادة مصر قولا وفعلا على أرض سيناء.
وأقول إلى الذين وعدوا مواطنيهم بأن التصديق على الاتفاقية سيعقبه عصر سلام ورخاء اقتصادى واستقرار سياسى وتحضر ثقافى وتقدم علمى وتكنولوجى، أقول لهم انظروا حولكم ثم اعتذروا لشعب مصر فالاتفاقية جاءت بعكس كل ما بشرتم به.