معرض جميل يضع الحياة فى كرتونة - سيد محمود - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 1:54 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

معرض جميل يضع الحياة فى كرتونة

نشر فى : الثلاثاء 25 أكتوبر 2022 - 8:55 م | آخر تحديث : الأربعاء 26 أكتوبر 2022 - 6:53 ص
تشهد القاهرة حاليا بمركز الصورة المعاصرة فى ممر الساعات أمام مول طلعت حرب التجارى أحد أهم المعارض الفنية التى جذبت جمهورا كبيرا وذلك تحت عنوان «خرج والمفروض يعد»، المعرض محاولة فنية لتأمل تجربة المصريين فى الخليج عبر الادوات التى يتيحها السرد البصرى بجميع أشكاله وباستعمال وسائط فنية متعددة تقوم على استدعاء الذاكرة والخبرات الشخصية.
وعلى الرغم من الغربة التى يستشعرها البعض مع تعبير الفن المعاصر إلا أن هذا المعرض يبددها تماما ويشيع فى الروح دفئا نادرا ويفتح آفاقا للحوار بين أكثر من جيل داخل الأسرة الواحدة، فقد ذهبت إلى المعرض مع ابنتى التى لا يزيد عمرها على 17 عاما وهى ليست محملة بأفكار ايديولوجية عن الخليج وبعد الزيارة دخلنا فى حوار طويل عريض حول ما رأيناه وما استمعنا إليه من حكايات جديرة باهتمام مختلف دوائر البحث.
يحتاج الفن المعاصر دائما لفكرة فلسفية تقف خلفه والفنان المعاصر باختياره هو مفكر على طريقته وقد شاع هذا النوع من الفن بجميع أشكاله عقب سقوط حائط برلين واستثمر تعدد الوسائط التكنولوجية ونمو ثقافة الصورة وفنون الميديا والفيديو آرت لتصبح واحدة من أهم أدوات التصوير على النحو الذى ساعد على الغاء المسافات، بل والأساليب.
تقف وراء المعرض مجموعة تسمى «انثروبولوجى بالعربى»، نجح أفرادها تماما فى ابتكار فكرة جذابة للجميع ولأنه لا يوجد بيت مصرى لم يعش عبر أحد أفراده تجربة العيش فى الخليج، فإن المواد الفنية المعروضة تصلح كأرشيفات متكاملة، تؤدى نفس الأدوار التى تؤديها الوثيقة التاريخية فى التدليل على الاثمان التى دفعها المصريون هناك مقابل الحصول على أموال أعانت الغالبية على بناء حياة مستقرة ماديا لكنها لم تكن خالية من إصابات فى الروح امتد تأثيرها للأجيال الأصغر من الأبناء الذين أتاح لهم المعرض فرصة اعلان رأيهم فيما عاشوه هناك.
تلعب الذاكرة الدور الأكبر فى المعرض، يعود البعض إلى الالعاب التى كانت تمارس فى البيوت المؤقتة التى سكنوها هناك مع ذويهم ويمكن للمتجول فى المعرض أن يؤرخ حتى لتلك النوعية من الالعاب التى لم يعد لها وجود الآن لكنها لا تزال تمثل علامة فى الذاكرة التى تستجلب الكثير من الحكايات والشواهد داخل الخطابات على مشاهد لم تذهب إلى الزوال ومن بين العلامات والدوال التى يسهل تلمسها داخل الجولات التى ينتقل فيها الزائر من غرفة إلى اخرى تلك العلامة الدالة فى العنوان الساخر لدرجة الألم والمستعمل فى العنوان وهو: (بيوت مؤجلة وحياة «متكرتنة» من الخليج إلى مصر).
وعلى كثرة ما قرأت من كتب وروايات ومؤلفات فى علم الاجتماع حول الموضوع لعل أبرزها رواية (البلدة الأخرى) لابراهيم عبدالمجيد إلا أننى لم أقف على عنوان يماثل فى أثره ما يتركه هذا العنوان فى خيال من يطالعه والمؤكد أن القيم الذى أشرف على المعرض كان بإمكانه الوصول لجملة أكثر فصاحة لكنه اختار جملته لأنها تلخص كل شىء وتضع يدها على الجرح وعلى الرغم من قسوتها إلا أنها تعطى مجالا شعريا للتعامل مع تلك اللحظات المعلبة داخل الذاكرة، لحظة تقوم على تأمل العابر، وتقاوم الاستقرار، فالذاهب إلى تجربة عمل وعيش لها تلك الشروط القاسية ينظر دائما لهذه التجربة بوصفها حياة قصيرة مرهونة بقرار العودة الذى يتخذه الكفيل متى شاء ذلك وبعدها يأتى دور الكراتين التى تستوعب هذه الحياة وتنقلها إلى محطة أخرى.
ومن أجمل الافكار التى اشتغل عليها القائمون على المعرض رغبتهم الحارة فى مقاومة الافكار النمطية فى الخليج الذى اعتدنا النظر اليه كمصدر لكل الافكار والسلوكيات المحافظة إلا أن ما نراه أحيانا هو على العكس من ذلك حيث يظهر المعرض اكثر من صورة لمواطن مر بالتجربة فى مراحل مختلفة فذهب إلى الخليج ملتحيا وعاش هناك وهو مهندم حليق الرأس وبالمثل تنظر واحدة من الفنانات للعباءة السوداء بخلاف النظرة التقليدية الشائعة وتعاملها كفضاء للكشف وليس للستر وتقوم بعملية استبدال للأدوار.
أما ناهد نصر (أعرف اسمها بحكم الزمالة الطويلة) فهو معالجة ذكية وساخرة لتجربة العيش فى ليبيا، تضعها فى شكل شريط تلفزيونى يبدأ من السبعينيات وحتى عودتها، شريط من عين الطفلة التى ترى تمدد الديكتاتور داخل التفاصيل البسيطة التى كانت تعنيها وتقع عين المشاهد على صور وخطابات شخصية للأهالى وشرائط كاسيت محملة بأصوات الأعزاء الذين رحلوا وتنطق برغباتهم، كما فعلت سالى أبوباشا فى رصد تجربة والدها بالكويت، انها حمولة الأصوات والأدوات التى تقاوم غيابها وغيابهم معا، فهى أيضا جزءا من استراتيجيات المقاومة التى يلح المعرض على تأكيدها.
كل الشكر للفنان على زرعى الذى وجه لى دعوة الحضور وكل الشكر لفرح حلابة وندى القونى ولينا الشامى ولمركز الصورة المعاصرة الذى نجح فى تخطى أسوار العزلة ووصل الفن بماء الحياة.