طبعا ليس من شأن هذه العجالة هنا، وليس فى مقدورها، أن تستعرض تاريخ الرواية العربية التى يمكننا وصفها بالجديدة أى التى صدرت وربما قُرئت خلال العقود الأخيرة من السنين. لكن فى الوسع القول أن الرواية تكاد تكون أكثر الفنون الإبداعية نجاحا خلال هذه الفترة من ناحية الرواج والمقروئية بصورة عامة، ولكن على المستوى النوعى أيضا حيث نراها متفوقة على الشعر الذى يعتبر عادة ديوان العرب، ويحاط بتبجيل مليونى وإنفاق كبير وحصص تلفزيونية يقيننا أنها قد أساءت إليه بأكثر مما أفادته. وكان يمكن للرواية أن يكون لها المصير نفسه بسبب صراع «الجوائز» والأموال المتدفقة عليها والعناوين المشتراة كما تشترى ماركات الألبسة والسيارات والأحذية.
غير أن ثمة عددا كبيرا من روايات عرفت كيف تنفُذ من هكذا مصير، مجددة فى الإنتاج الروائى العربى الذى وصلنا إرثا من جيل نجيب محفوظ ويحيى حقى وفتحى غانم ومحمود المسعدى وغائب طعمة فرمان، وغيرهم فى بلدان عربية عديدة وليس فقط فى مصر.
لن يكون ممكنا هنا حتى وضع واحدة من تلك اللوائح التى يحبها القراء المستعجلون عن «أفضل» أو «أهم» أو «أنجح» روايات المرحلة، ولكن يمكن التوقف عند بعض الإشارات التى تبقى فى حاجة إلى تطوير وتعميق يصعب تحقيقه هنا. ولعل فى إمكاننا الإشارة أولا إلى مسألة تتخذ بالنسبة إلينا أهميتها البالغة وتتمثل فى التساؤل حول ضمور ظاهرة كانت وصلت أوجها حتى نهايات القرن العشرين: ظاهرة كون الأفلام المنتجة انطلاقا من أعمال أدبية سابقة الوجود.
فى المقام الأول وإلى جانب عدد من «الديناصورات» الذين واصلوا التعبير عن أنفسهم روائيا فى بدايات المرحلة الأخيرة وبأعمال متميزة فى مسارهم (خيرى شلبى أو بهاء طاهر؛ رضوى عاشور أو محمد المنسى قنديل...) ظهر عدد كبير من كتاب جدد، بل حتى من تيارات بأكملها ترتدى طابعا إقليميا، سرعان ما احتلوا مكانهم. ففى مصر شكل علاء الأسوانى وحده ظاهرة متكاملة كما سيفعل من بعده سعد القرش وأحمد مراد وربما ميرال الطحاوى ومى تلمسانى وغيرهم آتيا كل منهم بدفق روائى جديد، عرفت السينما، على أية حال كيف تتلقف بعضه وتحوله أفلاما ناجحة نسبيا. وفى لبنان ظهر ربيع جابر الذى سرعان ما احتل مكانة متقدمة على الصعيد العربى وفى ركابه «تيار الشمال اللبنانى» من جبور الدويهى إلى هدى بركات ونجوى بركات ورشيد الضعيف إلى نصف دزينة من روائيين آخرين. ولئن تميزت الرواية الفلسطينية ــ الأردنية بأعمال قليلة العدد رغم أهميتها تسير على خطى مؤنس الرزاز وتنقل من الشعر إلى الرواية مبدعين من طينة إبراهيم نصر الله، فإن حالتى العراق وسوريا ظلتا لافتتين بارتباط قيمة ما يصدر فيهما بالعواصف السياسية التى لفتهما بصورة تكاد تكون متشابهة. ومن هنا حلقت مجموعة من الالتباسات ليس فقط من حول وجود روايات حاولت أن تصف الوقائع المتلاحقة، بل من حول القيمة الفعلية لمعظم تلك الأعمال التى كان مآلها أن ترتبط بالربيع العربى فيطغى عليها أسلوب تخييل الذات auto-fiction الذى سنلمس بعد سطور دوره السلبى فى جعل السينما عاجزة عن أن تنهل من الأدب الروائى الجديد. ولربما يصح أن نقول أن ما يصيب الرواية فى هذا السياق يتشابه مع ما أصاب السينما ولا سيما حين وصلت إنتاجاتها إلى أوروبا والمهرجانات فكان الاهتمام بها سياسيا بل إيديولوجيا لا أكثر وكانت ثمة فورات لذلك الاهتمام تتزامن مع الفورات السياسية بحيث تختفى الاهتمامات بضمور الأحداث التى ولدتها.
ولعل فى مقدورنا أن نضيف إلى ذلك كله ارتفاع نسبة الكاتبات على نسبة الكتاب وبشكل يمكنه أن يفرح دعاة المساواة بين الجنسين. ولكن يبقى السؤال: فى سبيل كتابة ماذا؟ فلئن كانت كاتبة كهدى بركات قد تمكنت من أن ترث غادة السمان وحنان الشيخ وربما كوليت خورى أيضا، هل يمكن القول أن أدبها أتى استمرارا لتيار الكتابة النسوى السابق؟ بركات نفسها ترفض هذا السؤال ولا تنظر إلى رواياتها هذه النظرة. لكن هدى بركات فى الحقيقة استثناء فى هذا السياق.
ومهما يكن من أمر ومن دون أن نتوقف فى هذه العجالة عند الأسماء والعناوين، يمكننا التأكيد هنا أن الرواية العربية تكاد تكون بخير بل تكاد تكون الإبداع الأكثر ديمقراطية حتى ولو تساءلنا: لمن تُكتب؟ ومن يقرأها؟ فنحن إن استثنينا كتابا باتوا راسخين بوصفهم الروائيين العرب الجدد لا بد من أن نتساءل ما هى هذه الروايات العربية؟ وما هى مواضيعها وكيف تكتب؟ ولعل الجواب الممكن الآن، هو أن معظم تلك الروايات إنما يكتب «على طريقة فلان…» فإذا كتب أمين معلوف عن «ليون الإفريقى» أو «سمرقند» سنجد أكثر من ثلاث دزينات من الروايات تكتب على غراره. وإذا كتبت هدى بركات، ستصدر روايات عديدة تحاكى كتاباتها، وربما سنجد من يحاكى أدب غسان كنفانى أو إميل حبيبى، ومن تشجعه مواضيع ربيع جابر.
وفى هذا السياق بل فى افتراق عنه نكاد نقول إن المفاجأة الكبرى أتت من السعودية خلال السنوات الأخيرة حيث وصلنا جديد روائى ما كنا له فى الانتظار – بعد أن ترسخت للرواية السعودية مكانة ما عبر مجموعة من روايات عبده الخال، عبر روايات لعبد الله آل عياف أو أشرف فقيه أو يحيى أمقاسم ولا سيما محمد حسن علوان فى رائعته «موت صغير»، وبخاصة هناء حجازى التى لم تنتظر الانفتاح السعودى السياسى – الاجتماعى الأخير حتى تتصدى للواقع الاجتماعى بقوة وجرأة (روايتها «امرأتان»).
ولعل هذه الإشارة إلى تلك الصورة تعيدنا إلى المسألة التى طرحناها أول هذا الكلام عما يجعل السينما مستنكفة عن أفلمة ذلك الأدب؟ ولعل الجواب المنطقى حتى وإن كان سيبدو اختزاليا يتعلق بذاتين لا يمكن لهما هنا أن تلتقيا: ذات الكاتب الروائى الجديد، وذات السينمائى الجديد. ولنوضح أكثر: لقد أشرنا أعلاه إلى أن معظم ما يكتب حاليا فى المجال الروائى العربى ينتمى إلى التخييل الذاتى الذى يعتقد كثر من الكتاب أنه «آخر الابتكارات» فى عالم الأساليب الأدبية غير دارين أنه موجود منذ أزمان بعيدة وهو ليس سوى الاسم الجديد للمذكرات حين تعطى شكلا روائيا الفارق الوحيد هنا أن السابقين كتبوا «تخييل الذات» فى مرحلة متقدمة من حياتهم بعدما بات لهم من المكانة والشهرة ما يجعل حكاية تلك الحياة مهمة وجديرة بأن تروى. أما كتابنا الجدد فهم يحوّلون حيواتهم إلى روايات قد تكون صادقة لكنها لن تغرى سينمائيا قد يكون هو الآخر راغبا بتخييل حياته أو تجربته، فى فيلم يجهد لجمع أموال تكفى لإنتاجه، وبالتالى لن يهتم كثيرا بأن ينفق جهدا ومالا لتخييل ذات الكاتب على الشاشة.
طبعا لا نعتبر هذا الجواب شاملا لكننا نقدمه كاقتراح ومدخل للنقاش ونأمل من الكتاب الموهوبين أن يتجاوزوا تلك الذاتية المفرطة حين يتساءلون لم لا يهتم السينمائيون بكتاباتهم.. بل حتى لم لا يجدون قراء كثرا يقبلون عليها؟ ولم لا يمكن لهذا الكم الرائع من الجهد والوقت أن يخلق تيارات أدبية جدية يتجاوز الاهتمام بها هواة الفيسبوك، الذين لا شك أنهم اليوم الأعداء الأوائل لكل ما هو جميل ورائع فى إبداعات المبدعين.