«مثقفو الهزيمة الثالثة» والحدود المعدومة بين الماضى والتاريخ (3-3) - إبراهيم العريس - بوابة الشروق
الجمعة 18 يوليه 2025 12:11 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

«مثقفو الهزيمة الثالثة» والحدود المعدومة بين الماضى والتاريخ (3-3)

نشر فى : الخميس 17 يوليه 2025 - 7:10 م | آخر تحديث : الخميس 17 يوليه 2025 - 7:10 م

‎‎تعود حكايتنا هنا إلى عدة أعوام للوراء يوم كان هناك فى الدوحة القطرية ناد للسينما يعرض ما يتيسر من أفلام سينمائية حقيقية وذات قيمة ومكانة فى تاريخ الفن السابع داعما عرضها أمام جمهور لا بأس به، يمكن اعتباره فى نهاية الأمر جمهورا نخبويا مثقفا، باستضافة بعض صناع الأفلام ونقادا يُتوخى منهم نقاشا جديا حول الفيلم المعروض وقضايا السينما بشكل عام.
‎إلى عرض من ذلك النوع دعيت يوما لمناقشة فيلم «إسكندرية / نيويورك» للراحل يوسف شاهين بصحبة بطل الفيلم الفنان محمود حميدة.
‎دار يومها العرض بهدوء. وبهدوء مشابه دار النقاش مع جمهور ذواقة بشكل عام، ولا أدرى لماذا، من المغتربين السودانيين العاملين فى العاصمة القطرية. بهدوء ولكن حتى اللحظة التى وقف فيها شاب سودانى غاضب ليهاجم يوسف شاهين قائلا إنه، بدلا من أن يحقق مثل هذه «الترهات الأمريكية ويضيع وقته ووقتنا، كان الأحرى به أن يحقق أفلاما عن أمثال، بطلنا صلاح الدين الأيوبى بطل القومية العربية، محرر ديار العرب والمسلمين». بدأ الكلام هجوميا بل عدوانيا ولكن كان يمكن تمريره مع ابتسامة لولا أن واحدا من مواطنى المعترض السودانى، خاطبه قائلا له: «ولماذا لم تقل هذا الكلام حين كنت شيوعيا تمجد يوسف شاهين لفيلمه «الروسى» عن «الناس والنيل» وها أنت تفعل بعدما صرت «ترابيا» – أى من أنصار حسن الترابي؟».
‎فى الحقيقة إن هذه الحكاية لا تبدو شديدة الأهمية فى سياقنا هنا، لكنها تفيدنا كنموذج لما نحن فى صدد الحديث عنه كخاتمة مؤقتة لموضوع تناولنا مقدماته فى مقالين سابقين ومتعاقبين هنا... وفحواه ذلك الخلط الذى بات رائجا فى الحياة اليومية لثقافتنا العربية كما يمارسها ملايين أنصاف وأرباع المثقفين العرب على الأجهزة الخلوية وباتت تبدو بغثها – دون سمين كان يمكننا افتراض وجوده لها، لولا أنه يغيب تماما ولكنه يحضر على شاشات التلفزة عبر من يُقدَّمون كخبراء غالبا ما يكونون ــ وأرجو ألا تضحكوا من فضلكم! – «استراتيجيين». وهو خلط بين الهزيمة والانتصار، بين الحق والباطل، وبين الأبطال وقطاع الطرق. ولكن خاصة، وهنا أهم ما فى الأمر، بين الماضى والحاضر.
‎فكما أن الهزيمة والانتصار باتا واحدا، وكما أن عنق الواقع يلوى ألف مرة فى اليوم، والحقيقى والمزيف يترادفان تماما كما تنبأ جورج أورويل فى روايته «1984»، ها نحن نرصد ألوف المرات فى اليوم، ذلك الخلط المضحك – المبكى بين الماضى والتاريخ. ودائما من قبل «مفكرين» ــ أنصاف مفكرين على أية حال ــ لا يفهمون أن الفارق بين الماضى والتاريخ فارق جوهرى ونوعى لا فارق كمى. لا يعرفون أن الماضى جمودية إن أفسدت الأمور استخدمت كدرس قاس يجدر الاستفادة منه، وإن أحسنتها، توضع مبجلة فى المتاحف ويحتفل بذكراها فيما تنسى قليلا فقليلا. أما التاريخ فديناميكية متحركة تسير دائما إلى الأمام، ودون غائية محددة أو محدودة لأنها تصنع فى كل لحظة وساعة ويوم على ضوء توترات الحياة وتبدلاتها التى تنتج بدورها ومن دون أن يتوقف الزمن، ما يليها فى تلك الحركية الدائمة التى تدور ما دامت الحياة نفسها تدور.
‎يقينا أن المفكرين الحقيقيين الذين عرفتهم النهضتان العربيتان الكبيرتان اللتان عرفهما الفكر العربى، مرة أواخر القرن التاسع عشر وربما بتأثير تواصل طوال ذلك القرن للثورة الفرنسية وحملة نابليون على مصر، ومرة ثانية خلال الربع الثالث من القرن العشرين من حول هزيمة يونيو 1967 وربما أيضا من خلال التأثر المغربى – المشرقى بثورات الشبيبة والطلاب المعروفة بربيع 1968، أولئك المفكرون فهموا الفارق الحقيقى بين التاريخ والماضى بل كان الغوص فيه، وغالبا بأساليب مواربة، جزءا من خطابهم النهضوى آخذين فى حسبانهم، وقد توالدت النهضتان من بعضهما البعض، أن ما يتعين التعامل معه هو التاريخ ومساره المندفع دائما إلى الأمام، وأن شرط ذلك هو التوقف عن النظر إلى الماضى بكونه لا يمضى أبدا. لا يريد أن يمضى ولا يراد له أن يمضى. ومن هنا تقديسه وارتكاب كل أنواع الخطايا باسمه، واعتباره زمنا لا يُمسّ بكل عناصره المكوَّنة والمكوّنة.
‎والحقيقة أن الحكاية التى بقيت فى أذهاننا مما «حدث» فى أمسية نادى السينما فى الدوحة، ليست سوى نموذج فصيح رغم بساطته، عما نقول. فالشاب السودانى الذى اعترض على فيلم شاهين، اعترض أكثر فى الحقيقة حين ذكرت فى ردى المتفكه عليه أننى أنا شخصيا، لو شئت أن أحقق فيلما عن صلاح الدين الأيوبي، لحققت عملا شكسبيريا/هاملتيا عن «الحيرة التى يمكن أن تكون قد استبدت به إذ انتهى من تطبيب عدوه ملك الإنجليز– وهو أمر يشكل مصدر فخر لكثر من «مثقفينا» عادة – جاءته رسالة من ابنه والى حلب، يخبره أنه قد قبض على «المفكر المشاكس السهروردى، فماذا تأمرنا أن نفعل به؟» فكان جواب السلطان القائد يأمر بقتله شر قتل. أجل كان ذلك ما فعله صلاح الدين «المتسامح» تجاه العدو الذى أتاه مدججا بالسلاح القاتل والرغبات العدوانية، والخالى من أى تسامح، تجاه مفكر لا يحمل من السلاح سوى فكره. فماذا كان تعليق الشاب السودانى؟ صرخ بكل بساطة: «إنه رافضى يستحق هذا المصير!»…
‎ترى هل يختلف زعيق الشيوعى السودانى الشاب السابق والذى بات فى ذلك الحين ترابيا، عما أتت لتقوله مئات المسلسلات التلفزيونية ولا سيما منها تلك التى تلقى نجاحات هائلة لدى متفرجين لا يتوانون عن النظر إليها وكأنها نشرات أخبار ترضى هواجسهم وأهواءهم، وألوف الكتب التى تتبارى فى عيش الماضى واصفة نفسها بأنها كتب تاريخ، وملايين الأصوات العربية، التى لا يمكنها أن تنظر إلى الماضى إلا بوصفه دينامية متواصلة الحضور بأهوائها وخزعبلاتها ومقدساتها... وهى تلقى تجاوبا لا ينقطع من قبل جماهير لا يمكنها على الإطلاق أن تفرق بين ما حدث وانتهى وتجاوزناه واقعيا، وبين ما يتواصل من رحم بعضه البعض عبر تلك الديناميكية التى تسمى تاريخا، وبالمعنى الحقيقى لا الماضوى للكلمة.
‎مهما يكن من أمر، كما لأن كل حكاية خاتمة، لا بد أن نصل هنا إلى خاتمة حكايتنا هذه. وهى خاتمة كتبت نفسها فى صباح اليوم التالى لسهرة نادى السينما. وتحديدا عبر مانشيت نصفى على الصفحة الأولى لواحدة من أكثر الصحف رسمية فى قطر. قال المانشيت بالحرف العريض: «الافتراء فى نادى السينما على واحد من صحابة الرسول». والصحيفة بعدما روت ما حدث مضفية عليه الكثير من التوابل، افترضت أن ما قيل عن صلاح الدين شتيمة له وهو مذكور فى كتب التاريخ تماما كما رويناه. لكن الأدهى من ذلك أنها اعتبرت «المفترى» عليه واحدا من الصحابة دون أن تأخذ فى حسبانها أن مئات الأعوام كانت قد مرت منذ غادر الصحابة عالمنا وظهر صلاح الدين، ناسية أنه كردى فى طريقها، مثنية على الشيوعى ــ الترابى السودانى الذى وصفه بـ«بطل القومية العربية»..

إبراهيم العريس إبراهيم العريس
التعليقات