كان زياد الرحبانى بالكاد قد بلغ العشرين من عمره حين كتب وأخرج ولحّن ومثّل مسرحيته «بالنسبة لبُكرا شو؟». وهو، إلى جانب كونه منتميًا ــ ولو إلى حين ــ إلى تراث آل الرحبانى، كان قد برز كفتى نابغة منذ تلحينه «لأوّل مرة ما منكون سوا»، تلك الأغنية الجميلة بالتأكيد، التى جعلها تحية من أمه فيروز لأبيه عاصى الرحبانى، الذى كان حينها نزيل المستشفى يعانى من جلطة دماغية ستقضى عليه بعد حين. والحقيقة أن «بالنسبة لبُكرا شو؟» (1978)، والتى تُنسى بعض الشىء اليوم لصالح أعمال أخرى لزياد الرحبانى نفسه، يمكنها، وأكثر من أى عمل آخر له، أن تضعنا فى مواجهة نظرته إلى لبنان؛ تلك النظرة التى لا شك أنها فى أساس مشاكساته السياسية، وتهكمه الدائم، واستفزازاته الأيديولوجية، التى كثيرًا ما تسامح معها حتى أشد خصومه وخصومها ضراوة.
منذ البداية، أعلن زياد الرحبانى حينها أن مسرحيته تلك «تقدّم شريحة من الحياة اليومية». ولم يكن من قبيل الصدفة أن يختار بارًا فى شارع الحمرا ميدانًا لأحداثها، متعمدًا أن يكون ميدانًا تتقاطع وتتصادم وتتفاعل فيه مجموعة من النماذج الاجتماعية المختارة بعناية. علمًا بأن المسرحية، فى ظاهرها على الأقل، لا تحمل حدثًا محددًا، لكنها لا تخلو من ذروة مسرحية تصل إليها فى فصلها الأخير.
زكريا وزوجته، الشخصيتان الرئيسيتان فى المسرحية، يعملان فى البار؛ هو بارمان، وهى مساعدة له، وسنكتشف بعد قليل أنها «تعير» جسدها للأجانب لمجرد ضرورة وصولها وزوجها زكريا والأولاد إلى مستوى عيش مقبول. وها هما أمامنا، وبين الحين والآخر، أى عند فراغ كل منهما من عمله، يتبادلان تحميل مسئولية ذلك «الانحدار» الذى لا يعرفان له اسمًا، لبعضهما البعض. ويشكّل حوارهما هذا العمود الفقرى للمسرحية، وصولًا إلى المشهد الأخير حين «يكتشف» زكريا أن ممارسة زوجته لتلك الدعارة باتت مفضوحة، فيقرّر وقفها، ثم يحاول الثأر لكرامته والتمرد على واقعه، فينتهى به الأمر إلى السجن.. لكن دورة الحياة تتواصل من دونه، وحتى إشعار آخر.
ماذا تفعل إذا كنت مواطنًا بسيطًا فى بلد لا يمتلك مواد أولية؟ ذلكم هو، باختصار، همّ زكريا وسؤاله المحورى. غير أن زكريا ليس، على أية حال، شخصية بسيطة وحسب. إنه أكثر من ذلك بكثير؛ بل إنه يجمع فى شخصيته المركبة عمق معظم الشخصيات التى تذرع الخشبة أمامنا، راوية لنا شذرات من واقعها/ واقعنا اليومى. وهذا ما يجعل من زكريا «المواطن الوسط»، الرجل المثالى فى منظومة الخدمات: فقير فى الأصل، عاجز عن أى صعود طبقى حقيقى، يبيع قوة عمله لمن يعرف كيف يستغلها. لا يملك شيئًا، لكنه يعرف جيدًا أنه إن خسر، فسوف يخسر كل شىء. ومن هنا قدرته على المساومة.. بكل بساطة.
بكل بساطة، يسأل زكريا ثريا: «مع من هذه الليلة؟ مع البلجيكى؟ «تجيبه: «لا.. مع الإنجليزى السمج!» فطالما أن المسألة مسألة مدخول إضافى يمكن استخدامه لشراء غسالة جديدة، أو لإيفاء دين ما، أو لنقل الطفلين من الدراسة الرسمية المجانية إلى مدرسة خاصة وتمكينهما من تعلم لغة أجنبية، لا يمكن لزكريا إلا أن «يسكت» عن زوجته، وإلا أن «يتفهّم» ظروفها وظروفه. وهما سكوت وتفهّم يحضانه على الاستسلام، والحد من الطموحات الكبيرة على مذبح تلك الصغيرة، وسط شريحة المجتمع التى تتحرك من حوله.
وما يتحرك من حول زكريا ليس، بالتالى، سوى شريحة من مجتمع الخدمات. وقد يكون من المغرى القول إن كل مجتمع الخدمات هو الذى يتحرك من حوله، لكن المرء لن يتوقف هنا سوى عند أربع فقط من تلك الشخصيات: ثريا نفسها، المعلم أنطوان، نجيب، ورضا. فهى، فى نهاية الأمر، وكما صاغها زياد الرحبانى، تعكس فى قوتها الرمزية جوانب أساسية من شخصية زكريا نفسه، كما تعكس المجتمع بأسره ضمن مفهوم الكاتب، انطلاقًا من كون زكريا المحور الذى تتقاطع عنده بقية الشخصيات: ثريا: وجه زكريا الآخر، الأنا/الضحية فيه. رضا: آناه/ الماضى، النموذج الذى كانه زكريا قبل اندماجه فى.. عالم الخدمات، والذى لا يرغب الآن فى العودة إليه رغم كل تعاطفه معه. المعلم أنطوان: المدير، الأب، الطيب، الذكى، الانتهازى، الرأسمالى، الذى سيكونه زكريا إن واصل طريقه كما يسير فيها الآن. ونجيب: الطباخ المعزول فى زاويته، صامتًا، مراقبًا، ذوّاقة، مقبولًا ومرفوضًا فى الوقت نفسه. إنه يحضر بنظراته النارية بأكثر مما يفعل بشفتيه الصامتتين الغاضبتين الواعدتين. إنه، بعد كل شىء، ضمير زكريا الحى.. والمخيف. إنه أقرب لأن يكون الأنا/ الآخر لزكريا.
وزكريا يدرك ذلك كله، ومن هنا تأتى ردود فعله تجاه كل من هذه «الكيانات» الأربعة التى تشكّل عالمه. فهو مقموع من أنطوان مراءً له، قامع لرضا محبّ له، راضٍ عن ثريا لضرورات تكتيكية مشفق عليها فى لحظات الرضا، ليحمّلها فى لحظات الغضب مسئولية مأساته/ مأساتهما، بحيث تتأرجح بالنسبة إليه بين أن تكون جلادًا وضحية. وهكذا قد تبدو حوارات زكريا مع هذه «الكيانات» الأربعة نوعًا من «مونولوج جوّانى طويل»، بطول المأساة ــ المهزلة التى تغلّف المسرحية كلها.
مهما يكن، زكريا ليس بطلًا، ولا هو حتى بالبطل ــ المضاد. هو الشخص المطلوب بقوة كركيزة أساسية لمجتمع الخدمات، حيث لا مواد أولية، ولا تصنيع، ولا ثمة سوى «قوة العمل الذاتية» مادةً للتجارة؛ «قوة عمل يمكن، بل لا بد من، توظيفها بشكل متفاوت تبعًا لطموحات كل فرد وإمكاناته». زكريا وثريا لا يملكان شيئًا، لكنهما مقولبان تبعًا لمشيئة مجتمع اشتغل عليهما أكثر من ربع قرن. بيد أن المسرحية لا تحاول، ولو للحظة، أن تدينهما. تصورهما كما هما، دون أن تطرح الموضوع من منطلق أخلاقى، بل من منظور جدلى، يميز شخصية زكريا، إحدى أقوى وأصدق الشخصيات التى صوّرها كاتب مسرحى عربى طوال نصف القرن الأخير. وهذا ما يعيدنا مرة أخرى إلى زكريا.
زكريا مستسلم أمام مصيره، يعتبر ما يحدث له مجرد «مرحلة عابرة، بعدها ستكون الأمور قد سُوّيت بشكل أفضل». لتبع زوجته جسدها، شرط أن يكون البيع لأجانب، ففى مثل هذه الوضعية، سيكون الأمر مجرد استغلال لقوة العمل، تجارة مشروعة، طالما أن المسألة تبقى كتومة. ولكن حين ينكشف الأمر، وتحديدًا أمام نجيب، تتحول اعتذارية زكريا إلى مرافعة قد تستغرق كل الزمن الاستقلالى اللبنانى.
حسنًا، نكتفى هنا بهذا القدر، لننصح من يريد أن يسأل عن حقيقة ما يحدث فى لبنان، بمراجعة هذه المسرحية مشاهدةً وقراءةً. وهى نفس النصيحة التى ثمة ما يغرينا بأن نوجّهها إلى الذين يجدون أنفسهم، فى الصحافة والمواقع الإلكترونية البائسة، غارقين فى ملايين الكلمات حول عبقرية زياد الرحبانى وفرادته، وقوة شكيمته الفكرية، إنما دون أن يخبرنا أيّهم عمّا يكمن من فكر حقيقى خلف ذلك كله.
ففى يقيننا، أن فى هذه النظرة البسيطة إلى هذه الجزئية من «بالنسبة لبُكرا شو؟»، ألف جواب وتحليل يمكننا من فهم، ليس فقط عمق دوافع زياد الرحبانى ــ ولا سيما حين يكون جوابه على سؤال عنوان المسرحية، بلؤمه المعهود: «بالنسبة لبُكرا شو؟ ولا شى» –، بل أيضًا تفسيرات صمته، الذى دام عقدًا ونصف العقد قبل رحيله، المدوى على أية حال. فقد قدّم تَفسيرًا واقعيًا لكل الأسئلة التى دارت دائمًا، ولم يُجِب عن أىٍّ منها إلا بابتسامة متهكمة، حول ستالينيته، وشيوعيته، وميله للانعزال، وعلاقاته النسائية، ولكن، خاصةً، حول لبنانيّته. أما الباقى، فلا بأس أن يأتى بعد فورة الحزن الأولى... المشروعة إلى حدّ كبير.