التراث الإسلامي للقبيلة الذهبية - عاطف معتمد - بوابة الشروق
الأربعاء 21 مايو 2025 1:29 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

التراث الإسلامي للقبيلة الذهبية

نشر فى : الثلاثاء 20 مايو 2025 - 7:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 20 مايو 2025 - 9:03 م

 فى مقالين متتابعين، عرضنا لتاريخ الإسلام فى روسيا، من خلال رحلتنا مع كتاب «الإسلام فى تترستان» الذى ساهمتُ فى نقله من العربية إلى الروسية قبل عدة سنوات. وكنا قد توقفنا عند الحالة الحضارية للإسلام فى القبيلة الذهبية.

إسلام القبيلة الذهبية

استندت إمبراطورية المغول إلى الأديان الشامانية والوثنية، وانتهج خاقانات المغول سياسة متسامحة مع الأديان المحلية، ولم يحاولوا فرض معتقداتهم على الشعوب المهزومة. كان جنكيز خان وخلفاؤه المباشرين يساوون بين ممثلى الطوائف المختلفة، ويجعلونهم على مسافة واحدة منهم. وكان هذا نوعا من «التكتيك الدينى» المتميز لسلالة جنكيز خان الأوائل.

لكن مع تفكك إمبراطورية المغول وظهور القبيلة الذهبية حدث التقاء بين الإسلام ومجموعة متنوعة من الأديان والمعتقدات، ومن ثم نشأ وضع دينى أدى إلى خصوصية انتشار الإسلام منذ النصف الثانى للقرن الثالث عشر.

بعد صراع قصير بين أتباع الديانات الشامانية والراغبين فى رفع الإسلام دينا رسميا للقبيلة الذهبية تمكن الزعيم المغولى بِركة خان (1257-1266 م) من الانتصار فى الصراع وأعلن إسلامه واختار هذا الدين عقيدة رسمية للقبيلة الذهبية.

نعرف من الكتاب الذى بين أيدينا عن الإسلام فى تترستان أن بِركة خان توصل إلى هذا القرار بعد أن زار علماء مسلمين فى  بخارى، وتحدث معهم، وهناك اعتنق الإسلام على يد الشيخ الصوفى سيف الدين البخارزى. لكن هذا لم يكن يعنى وقوع أسلمة شاملة لسكان القبيلة الذهبية. إذ استمرت فى الحياة العامة التقاليد القديمة.

بدأ الإسلام ينتشر بصورة أوسع فى سهول ومدن القبيلة الذهبية من نهاية القرن الثالث عشر. وفى بداية القرن الرابع عشر زاد نفوذ الجالية المسلمة فى الإمبراطورية، بحيث مكّنت أحد أبنائها وهو «أوزبك خان» (1312-1342 م) من الوصول للعرش. خلال النصف الأول من القرن الرابع عشر ترعرعت بشكل تدريجى فى القبيلة الذهبية فئة من رجال الدين الإسلامى مدوا نسبهم  إلى أحفاد النبى محمد، وعرفوا باسم «السادة».

حضارة القبيلة الذهبية

يذهب الكتاب الذى بين أيدينا إلى أنه كانت هناك حالة من التسامح الدينى، رغم الهيمنة الواضحة للإسلام فى القبيلة الذهبية فى النصف الأول من القرن الرابع عشر، ففى مدن منطقة الفولجا جنبا إلى جنب مع المساجد بُنيت الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية.

كانت القبيلة الذهبية واحدة من أنشط مراكز التجارة والتخطيط العمرانى. وكان التجار العرب والأرمن والبلغار والبورتاس واليونانيون والألمان واليهود والإيطاليون والصينيون والروس والفرس والأويجور والخوارزميون ينتشرون فى الوكالات التجارية فى كبرى مدن البلاد.

كان يتم تبادل مختلف أنواع بضائع بلدان العالم القديم فى واحد من أنشط المعابر التجارية فى العالم، وأدت التجارة الدولية إلى ازدهار الحرف والزراعة، وشجعت على تطور صناعة بناء السفن. وساهم فى ازدهار الدولة عشرات المدن الجديدة التى نشأت بعد حملات باتو خان وإعادة الإعمار والتوسع لمجموعة من المدن القديمة، والمستوى الرفيع للحرف اليدوية للسكان.

من بين 150 مدينة فى دولة القبيلة الذهبية برزت عاصمتيها: سراى القديمة والجديدة. أسس باتو خان الأولى على الضفة اليسرى من نهر الفولجا شمال أنقاض عاصمة الخزر إتِل.  والثانية (الأكثر شهرة) أسسها بِركة خان على الضفة اليسرى أيضا، إلى الجنوب بعض الشىء من مدينة فولجاجراد الحالية (التى ستشتهر فى التاريخ الحديث باسم ستالينجراد).

لقد تميزت سراى بأعلى مستوى من التخطيط العمرانى، إذ مدت بها أنظمة لتوفير المياه والصرف الصحى، كما كانت سراى الجديدة مجهزة بشبكة واسعة ومعقدة من القنوات والأحواض وحمامات السباحة والنوافير. كما انتشرت القصور والمساجد والمآذن والمدارس الإسلامية والحمامات والكاروانسرايات (الوكالات التجارية) والأضرحة والأحياء السكنية (التى كانت تمزج بين التقاليد المعمارية والهندسية للعالم الإسلامى والصين) وهو ما خلق انطباعا مميزا بجمال فريد. وكانت مدن المقاطعات، التى أسسها الخاقانات الأوائل للقبيلة الذهبية، تحاكى عاصمتيها.

أظهرت عاصمة القبيلة الذهبية ومدن المقاطعات رقيًا فى الحرف. ولم يكن البلاط والفخار المزجج أقل شأنًا من نظيره فى خوارزم، والأوانى الزجاجية كانت كنظيراتها البغدادية، وفى تزيين الجلود لم يكن هناك مثيل للحرفيين البلغار فى أوراسيا بأكملها.

ووفقا للكتاب الذى بين أيدينا، عكس الإنتاج الفكرى والأدبى فى القبيلة الذهبية التقاليد القومية لشعوبها، وانعكس فى مجموعة متنوعة من الأشكال الأدبية كالمرثيات والأشعار والقصائد والداستانات (الملاحم الشعبية) والحكايات والروايات والمواعظ. ويعود لأدب القبيلة الذهبية روائع الأدب العالمى، مثل: «خسرو وشيرين» لقطب السراى، و«كتاب الحب» لخوارزمى، و«السلطان الجمجمة» لحسام قايتباى، و«جوليستان» لسيف سراى، و«الطريق المفتوح لحدائق الجنة» لمحمود البلغارى.

وفى هذه الدول كان هناك فهم واضح لانتمائهم للعالم الإسلامى، حيث جاء فى رسالة الخاقان إبراهيم - حاكم خانة تيومين- مخاطبا أمير موسكو العظيم إيفان فاسيليفيتش عام 1489: «أنا قيصر مسلم وأنت قيصر مسيحى». ونفس المعنى كتبه الأمير يوسف حاكم خانية النوجاى عام 1551 م فى رسالته الموجهة إلى الأمير إيفان الرابع: «نحن مسلمون وأنتم مسيحيون».

هوية الثقافة الدينية

فى هذه الممالك أو الخانيات كان هناك نظام متشعب للمؤسسات الدينية وطبقة كبيرة من رجال الدين الإسلامى وعلى رأسهم السيد الأعلى من سلالة النبى محمد. فعلى سبيل المثال كان فى شبه جزيرة القرم وحدها أكثر من 20 ألف مسجد جامع، وأسهم رجال الدين فى الخانيات بدور نشط فى شئون الدولة، إذ كان السادة يشاركون فى اتخاذ القرار بشأن المرشح لعرش الخانية.

وإلى جانب مشاركة رجال الدين فى شئون الدولة بشكل عام، ساهموا أيضا فى النشاط الدبلوماسى، وتطلب من الدبلوماسيين رفيعى المستوى معرفة عميقة فى العديد من المجالات. وليس من قبيل الصدفة أن «قول شريف» -آخر سيد أعلى لخانية قازان- كان ضليعا فى علم الفلك، والتاريخ، والشئون العسكرية، وأمور الدولة، وكان أيضا كاتبا بارعا وشاعرا. وكان التسامح الدينى واحدا من أبرز جوانب الحياة العامة فى الخانيات التترية.

وفى إشارة إلى عدم وجود عنف فى العلاقات بين ممثلى الأديان المختلفة فى خانية قازان كان الإمام أثناء خطبة الجمعة يقف مستندا على عصا شخص فقير بدلا من سيف محارب، كما جرت العادة فى بعض بلدان آسيا الوسطى، دلالة على وصول الإسلام بالحكمة والتصوف والزهد والدعوة لا بالغزو والسيف والقتال.

ثم ازدادت عملية انتشار الإسلام فى فترة القبيلة الذهبية إبان حكم الخاقان أوزبك خان، ويعود اكتمال عملية الأسلمة إلى فترة حكم الخاقان كوتشوم خان، الذى دعا رجال دين من آسيا الوسطى لتعزيز دور الإسلام.

تفكك القبيلة الذهبية

ومثلما دب الضعف فى الإمبراطورية المغولية وتفككت إلى عدة وحدات أصغر كان من بينها القبيلة الذهبية، دب الضعف أيضا فى القبيلة الذهبية وتفككت إلى عدة وحدات أصغر فيما بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وظهر على أنقاضها ست ممالك أصغر هى:

-   خانية تيومين (فى  سيبيريا).

-   خانية قازان.

-   خانية قاسِموف.

-   خانية النوجاى (بين الفولجا والأورال).

-   خانية شبه جزيرة القرم.

-   خانية أستراخان (التى تكونت إثر انكماش القبيلة الكبرى فى حوض الفولجا الأدنى).

صعود روسيا.. انهيار قازان

شن القيصر الروسى إيفان الرابع سلسلة من الحملات العسكرية ضد إمارة قازان وصلت ذروتها فى عام 1552 حين نجح فى حصار العاصمة واقتحامها ودمر المدينة وأهلها، وتلاشى وجود الخانية، وتساقطت بقية الخانيات الأخرى (سيبيريا وأسترخان وقاسِموف ثم القرم لاحقا). وانضم حوض نهر الفولجا إلى روسيا، وأصبح الإقليم من ذلك الحين جزء من القيصرية الروسية، ومعه تبدأ مرحلة جديدة من علاقة الإسلام بالدولة الروسية لمدة خمسة قرون مقبلة. وهو ما سننظر إليه فى مقالات مقبلة.

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات