احتفلت الحكومة المصرية ومعها كما هو متوقع قنوات التلفزيون الحكومية والخاصة وكذلك كل الصحف تقريبا بصدور وثيقتين، إحداهما تطرح استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان وثانيهما ترسم صورة للتنمية البشرية فى مصر واعتبر المسئولون الحكوميون ومعهم معظم المعلقين الإعلاميين أن صدور الوثيقتين هو حدث مهم يجب أن يلقى تأييد الأوساط الدولية ونقلة كبيرة لأوضاع التنمية البشرية وحقوق الإنسان، وأن هذا الحدث يكشف عن ثقة الحكومة المصرية فيما تفعل، وأنه ليس لديها ما تخفيه.
ولكن هل يكفى صدور هاتين الوثيقتين الرسميتين للاحتفاء بهما أم أن الاحتفاء الحقيقى هو بدراستهما وبيان علاقتهما بالواقع الذى يفترض أن يعكساه بل وأن يساهما فى تطويره. اكتفت معظم التعليقات بالاحتفاء، ولكن يهتم هذا المقال بتحليل رؤية كل منهما لهذا الواقع، وما إذا كانت هذه الرؤية هى الصحيحة أو الوحيدة، وما هى الرؤية الأخرى لهذا الواقع؟ ويستند كاتب هذا المقال إلى كونه ليس بعيدا عن الانشغال بالقضايا التى تناولتها الوثيقتان، فهو من ناحية قد درس حقوق الإنسان فى كل من جامعة القاهرة والجامعة الأمريكية سنوات عديدة، وشغل مناصب قيادية فى عدد من منظمات حقوق الإنسان فى مصر، كما ساهم بكتابة أوراق خلفية فى كل من تقرير التنمية البشرية فى مصر وتقارير التنمية الإنسانية العربية، وكان المحرر الرئيسى للعدد الخامس من تقرير التنمية الإنسانية العربية قبل أن يعيد مكتب الدول العربية فى برنامج الأمم المتحدة الإنمائى صياغة بعض فصول التقرير على النحو الذى يلتقى مع تحفظات عدد من الحكومات العربية وتخوف المكتب من رد فعل بعض الحكومات الأجنبية ذات النصيب الأكبر فى تمويل البرنامج.
والملاحظة الأولى على هاتين الوثيقتين أنهما وثيقتان حكوميتان، ليس فقط لأن وزارة الخارجية هى التى أشرفت على إعداد واحدة، وتولت وزارة التخطيط فى الثانية تنظيم واختيار الباحثين، ومعظمهم من العاملين فى الحكومة، ولكنها هى التى حددت القضايا التى يتناولها التقرير الثانى. ولذلك فلا توجد أى مبالغة فى الحكم على هاتين الوثيقتين بأنهما يعكسان وجهة نظر الحكومة سواء بالنسبة لحقوق الإنسان أو التنمية البشرية، ولذلك لم يكن مستغربا بعد ذلك أن تخلص الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان بأن المشكلة فى أوضاع حقوق الإنسان فى مصر هى غياب ثقافة حقوق الإنسان، ونقص تدريب العاملين فى هذا المجال، وآثار الحرب ضد الإرهاب، وعدم بلوغ التنمية الاقتصادية والاجتماعية غاياتها، وهكذا فالقارئ والقارئة لهذه الوثيقة لا يجد أى إشارة إلى دور الحكومة ذاتها فى انتهاك حقوق الإنسان، وكأن المجتمع هو الذى ما زال يودع آلافا من المواطنين فى السجون بدعوى الحبس الاحتياطى دون توجيه أى تهم لهم، وأن فرض الحبس الفردى على نشطاء قضوا بالفعل سنوات عقوبتهم وخرجوا من السجن وأعيدوا إليه هو بفعل قوى مجتمعية مجهولة. بل وكما لو أن القيود على حريات التعبير والتنظيم والمشاركة السياسية وهى التى يعترف بها التقرير، هى أمور لا علاقة للحكومة ومؤسساتها بها. وعندما يطرح التقرير سبلا للخروج من هذه الأوضاع، فلا يذكر منها تعديل نصوص الدستور المدخلة عليه فى 2018 والتى تطيح بمفهوم الدولة المدنية الديمقراطية الدستورية الحديثة التى يبشرنا الخطاب الرسمى بأنها هى ليست فقط الغاية التى نسعى إليها بل إنها الواقع القائم، كما لا تدعو الوثيقة إلى الإسراع بإطلاق سراح مسجونى الرأى، والالتزام كحد أدنى بلائحة السجون فى معاملة كل المسجونين، وإنما تبشرنا بأن مدة هذه الاستراتيجية هى خمس سنوات. بل ولم يعقب إعلان الوثيقة أى خطوات جادة لتنفيذ بعض ما دعت إليه، وهو ما يلقى شكوكا قوية حول مدى مصداقيتها.
***
والطابع الحكومى لتقرير التنمية البشرية فى مصر يتنافى مع التقاليد السابقة فى الإعداد لهذا التقرير. صحيح أنه كان يصدر منذ سنة 1994 باسم وزارة التخطيط، ولكن كان يشرف على إعداده الدكتور عثمان محمد عثمان مدير معهد التخطيط القومى، وأشهد أنه كان يختار فريقا كبيرا من أفضل الخبراء فى مصر ومن جميع الاتجاهات لكتابة أوراق الخلفية لهذا التقرير، وكان الأمر ينتهى بأن هذه الأوراق تصبح هى المادة الأساسية لفصول التقرير. وأشهد أن بعض ما كتبته عن المشاركة السياسية فى مصر لم يلق تأييدا من المرحوم الدكتور كمال الجنزورى الذى كان يترأس بحكم منصبه كنائب رئيس الوزراء ووزير التخطيط الهيئة المسئولة عن التقرير، ولكن نجح الدكتور عثمان فى إقناعه بأن ما كتب كان يستند إلى بيانات رسمية وأن ذلك كان هو الواقع، واستسلم المرحوم الجنزورى لدفاع دكتور عثمان عما كتبت وظهر فى تقرير التنمية البشرية لمصر فى سنة ١٩٩٥، وبعد مغادرة الدكتور عثمان لمنصبه مديرا للمعهد عندما تولى وزارة التخطيط ثم وزارة التنمية الاقتصادية فى حكومة الدكتور أحمد نظيف عهد للدكتورة هبة حندوسة الأستاذ السابق بالجامعة الأمريكية بالقاهرة والمديرة السابقة لمنتدى البحوث الاقتصادية للدول العربية وإيران وتركيا بمسئولية الإشراف على التقرير، واستعانت الدكتورة هبة بعدد كبير من الباحثين لكتابة أوراقه الخلفية وكان من بينهم عدد لا بأس به من الشباب من اتجاهات فكرية متعددة، وخرج التقرير فى سنة 2010 ليطرح القضايا التى تشغل الشباب والتحديات التى يواجهونها، وتمتع تحليله بمصداقية شديدة، واحتفلت به الحكومة رغم أنه بين بعض أوجه قصورها التى أكدتها ثورة يناير التى قادها الشباب، مما ضاعف من قيمة التقرير حتى بعد سنوات عديدة من صدوره.
وقد جربت الحكومة فى مصر تحت رئاسة المهندس شريف إسماعيل إصدار التقرير وبنفس الأسلوب السابق الذى يضع المسئولية عن التقرير فى يد فريق من الأكاديميين والخبراء ذوى السمعة المهنية الطيبة. إذ أوكل وزير التخطيط السابق الدكتور أشرف العربى قيادة الفريق للأستاذ الدكتور ماجد عثمان أستاذ الإحصاء والعالم النابه بكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة، والذى شغل داخل الحكومة منصب مدير مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار لمجلس الوزراء ثم تولى لفترة قصيرة وزارة الاتصالات بعد ثورة يناير 2011، ووافقت الحكومة مبدئيا على أن يكون موضوع التقرير هو العدالة الاجتماعية فى مصر، ولكن بعد الانتهاء من صياغة التقرير وعرضه على أعلى المستويات فى الحكومة، وبعد مناقشة مجلس الوزراء بكامل هيئته للتقرير بحضور الدكتور ماجد، والذى سانده وزير التخطيط، انتهى الرأى بعدم إصدار التقرير، ولا شك أن سبب قرار الحكومة لم يكن خطأ فى بيانات التقرير أو تحليله، ولكنها لم تشأ أن يعرف الرأى العام فى مصر بأبعاد غياب العدالة الاجتماعية فى مصر، رغم أنها كان يمكن أن تعتبر ذلك تنبيها لها بمراعاة هذا الغياب، وإعادة صياغة سياساتها على النحو الذى يؤدى إلى علاج أوجه النقص التى أشار لها التقرير. وخصوصا أن للعدالة الاجتماعية أبعادا متعددة اقتصادية وإقليمية وما بين الجنسين وما بين الأجيال، وأنه لا توجد دولة فى العالم يمكن أن تزعم أنها قد أوفت بكل هذه الأبعاد.
ولذلك يحمد للحكومة بكل تأكيد السماح بإعادة إصدار التقرير، بعد هذا التردد خلال الأعوام السابقة، ولذلك أيضا فإن هذه الخلفية تفسر كيف خرج التقرير على هذا النحو، فهو يرضى الحكومة لأنه تبنى بعض أجندتها، وصور التنمية البشرية فى مصر على أفضل نحو تريد. يبدأ التقرير بالإشادة بما حققه الإصلاح الاقتصادى فى مصر، وينتقل بعد ذلك لبيان ما أنجزته الحكومة فى مجالات التعليم والصحة والإسكان والحماية الاجتماعية والنهوض بالمرأة والحفاظ على البيئة والوفاء بشروط الحوكمة، وتغيب عنه النظرة النقدية لما قامت به الحكومة أو لم تقم به. ويظهر غياب هذه النظرة النقدية فى مناقشة التقرير للإصلاح الاقتصادى، ففلسفة التنمية البشرية أو الإنسانية كما يفضل التقرير العربى الذى بدأه الدكتور نادر فرجانى أن يسميها لا تساوى بين التنمية الاقتصادية والتنمية الإنسانية، بل تفترض أن التنمية الاقتصادية تأتى أحيانا على حساب التنمية الإنسانية، فيمكن أن تقترن التنمية الاقتصادية بزيادة الفقر واتساع نطاق الحرمان بين البشر والتضييق على حرياتهم الأساسية، ولذلك كان ينبغى على تقرير التنمية البشرية فى مصر أن يناقش توجهات التنمية الاقتصادية، وما إذا كانت تؤدى إلى توسيع نطاق الاختيارات أمام البشر بما فى ذلك اختيارهم للمؤسسات والبنى التى تحدد هذه الاختيارات. هل التنمية البشرية هى أولوية للتنمية الاقتصادية فى مصر سواء من حيث الاستثمارات أو إنفاق الحكومة أو حتى الوقت الذى يخصصه كبار المسئولين لكل منهما. اقترن البدء فى الإصلاح الاقتصادى فى مصر بزيادة معدل الفقر، والذى ما زال مرتفعا يعانى منه أكثر من ثلاثين مليون مواطن، كما تبتلع الاستثمارات فيما يسمى التنمية العقارية وهى شق الطرق والكبارى والمساكن وإقامة عاصمتين جديدتين أكثر من خمس الاستثمارات بينما يأتى الإنفاق على التعليم والصحة فى مكانة متدنية، وتواجه الحكومة تحديات هائلة فى توفير المدرسين للتعليم العام وفى إيجاد الموارد للحصول على اللقاح اللازم لتوفير التطعيم للمواطنين والمواطنات ضد جائحة كورونا، وتعتمد فى ذلك جزئيا على المعونات من الدول الصديقة ومن منظمة الصحة العالمية، ولا يكاد التعليم أو الصحة يظهران على جدول أعمال الحكومة كثيرا مقارنة بالمشروعات الانشائية، وبدلا من أن توجه الحكومة ما يتوافر لها من موارد لتحسين فرص حصول بنات وأبناء الطبقات الفقيرة على التعليم، نجدها ترفع المصروفات فى المدارس الحكومية التى يفترض مجانيتها، وتخصص مليارات الجنيهات لبناء جامعات أهلية لا يقدر على تحمل مصروفاتها سوى العائلات الموسرة. وذلك كله يتنافى مع المفهوم الصحيح للتنمية البشرية.
***
وإذا كانت الحكومة تفخر بإصدارها هذا التقرير، فإن بعض بيانات التقرير تدعوها للتواضع. إنفاقها على التعليم والصحة سواء كنسبة من الإنفاق العام أو الناتج المحلى الإجمالى قد تناقص إلى ما هو أقل مما كانت تخصصه الحكومات السابقة قبل سنة ٢٠١١ والتى كانت تخصص 12٪ من إنفاقها العام و3.5٪ من الناتج المحلى الإجمالى للتعليم، وانخفض ذلك فى سنة 2019ــ2020 إلى 8.4٪ و3.2٪ على التوالى، وفيما يتعلق بنصيب الصحة فقد انخفض خلال نفس الفترة من 5٪ من الإنفاق العام و1.5٪ من الناتج المحلى الإجمالى إلى 4.6٪ و1.2٪. كما ما زال ترتيب مصر فى نوعية التعليم الأساسى لا يتجاوز ١٢٦ بين ١٨٩ دولة وتتفوق كل من الأردن وتركيا وإيران على مصر فى مدى تحصيل الطلبة للرياضيات والفيزياء، وهى من أهم مؤشرات جودة التعليم قبل الجامعى. ومؤشرات الحوكمة التى استند فيها التقرير لبيانات البنك الدولى تظهر أداء مؤسفا، فسواء تعلق الأمر بفعالية الحكومة أو سيادة القانون أو التحكم فى الفساد أو الجودة التنظيمية، فقد كانت الأوضاع أفضل بكثير، نسبيا فى سنة ٢٠١٠ عما أصبح عليه الحال فى سنة ٢٠١٩، واختزل التقرير كثيرا الحديث عن المشاركة السياسية لأسباب لا تخفى عن المتابع والمتابعة للشأن العام فى مصر.
جميل أن تتبنى الحكومة استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان، وأن تصدر تقريرا عن التنمية البشرية فى مصر، ولكنها لا يجب أن تعفى نفسها من المسئولية عن تدهور الأوضاع فى هذين المجالين، وينبغى أن تستمع لرؤى مستقلة عن كل منهما، وأن ترى الواقع ولا تتوهم أن العالم الخارجى سوف يقتنع بتقارير لا تظهر حقيقة الأحوال فى مصر بكل جوانبها.