كتبت الأسبوع الماضى فى هذا المكان عن عقد الثلاثينيات من القرن الحالى، القرن الذى سوف يشهد تدنى نسبة السكان البيض فى الولايات المتحدة إلى أدنى مستوى، ويحتل ذوو البشرة السمراء النسبة الأكبر من السكان.
لم أكن غافلا، وأنا أكتب مقال الأسبوع الماضى، عن حقيقة أن بريطانيا تسير على الدرب نفسه. وهى حقيقة يدركها كل من يعرف بريطانيا وعاش فيها أو غاب عنها ثم عاد إليها. لندن التى نراها الآن فى الصور أو على الطبيعة تختلف عن لندن التى عرفها أبناء جيلى من الذين عاشوا فيها كطلبة أو عملوا فيها أو مروا عليها فى طريقهم إلى العالم الجديد. قد لا تختلف فى العمارة كثيرا فهندستها فريدة ومازال لوسطها التجارى نكهته المعمارية الخاصة، ولا تختلف فى مناخها التعيس، فما زال ضبابها الشهير يحد مدى البصر ويذكر بالأفلام التى تظهر فيها لندن رمادية فى بدايات ثورتها الصناعية والتجارية.
•••
لم يتغير الشكل ولا الطقس ولكن تغير المضمون وربما الجوهر وتغيرت الطباع والسلوك. صارت من الأخبار الشائعة قضايا تقيمها الدولة أو جمعيات ضد أمهات وآباء يفرضون على بناتهم الزواج من شبان أو كهول لم تقع عيونهن عليهم من قبل وأغلبهن من الفتيات القاصرات، وقضايا ضد ازواج يضربون زوجاتهم ويمارسون ضدهن عنفا بشعا. هناك أحياء فى لندن تسكنها غالبية من بريطانيين سمر البشرة من أصول آسيوية، من الهند وباكستان والبنغال ونيبال وسيريلانكا، أكثرهم يرتدون الازياء التى وصل بها أجدادهم وأباؤهم، وهناك أحياء أخرى تسكنها غالبية بشرتهم سوداء من أصول كاريبية، زنوج أو مزيج زنجى وهندى ولاتينى.
•••
تفخر حكومة بريطانيا بأنها لم تساير حكومات دول عديدة فى الاتحاد الأوروبى تمنع مواطنيها من ارتداء أزياء تدل على انتماءات دينية. كانت القبعة إلى وقت قريب الغطاء «القومى» الوحيد للرءوس بين الإنجليز رجالا ونساء، يحل محلها تدريجيا فى شوارع مختلف مدن انجلترا وبخاصة لندن النقاب وغطاء الرأس الإسلامى واللفة التى تميز المواطنين السيخ عن غيرهم من شعوب الأرض. أذكر اننى قمت مع أحد الأصدقاء، قبل عشرين عاما، بحصر نسبة النساء شقراوات الشعر والبشرة إلى النساء ذوات اللون الأسود، ولدهشتنا كانت نسبة ذوات الشعر الأسود والبشرة السمراء أعلى من توقعاتنا، وهى الآن بالتأكيد أضعاف ما كانت عليه قبل عشرين عاما. حين أسمع أن بلدا تغير يكون أول ما يأتى إلى ذهنى هو أن الناس فى هذا البلد هم الذين تغيروا فتغيرت معالم البلد.
•••
يقال بين الذواقة إن أطيب الأطعمة الشرقية، وبخاصة الهندية والصينية، هى تلك التى نتناولها فى لندن وليس فى بلادها الأصلية. وأستطيع أنا شخصيا تأكيد هذه المقولة، وبخاصة فيما يتعلق بما تعودت تناوله فى مطاعم تقدم أطباقا «محلية» لا نجدها إلا فى أقاليم معينة فى الهند وفى جنوب الصين، أو فى مطاعم صغيرة فى لندن الإنجليزية وإدنبرة الاسكتلندية. الجديد هو أن المطاعم التى تقدم أكلات آسيوية وشرق أوروبية وإثيوبية وعربية صارت أكثر عددا من المطاعم التى تقدم أطباقا تقليدية انجليزية.. وهى على كل حال أطباق وأصناف من الأكلات تعد على أصابع اليد الواحدة ومستمرة فى الانقراض مع انقراض «الحانات» التى كانت تقدم هذه الأطباق مع البيرة والسيجارة والسيجار. بقيت البيرة وحلت الوجبات السريعة محل الأطباق الانجليزية واختفى الدخان.
•••
الزحف الأسمر متواصل وانحسار الجنس الأبيض نتيجة حتمية لهذا الزحف التاريخى. أعرف أن أحفادنا، وربما أولادنا، سوف تفوتهم رؤية مدن فى الغرب تسكنها أغلبية بيضاء. لن يعيشوا كما عشنا فى ظل هيمنة الرجل الأبيض وحضارته وقيمه. لا أعرف إن كنا سنحفظ لهؤلاء الأحفاد وأولادهم بعضا من القيم والأخلاق التى تميز بها عصر الرجل الأبيض، كقيم العمل والإنتاج والديمقراطية وإعمال العقل. كل ما أعرفه تحت ضغط اللحظة الراهنة والتطورات الجارية فى مصر والعالم العربى ، هو أن عددا غير قليل من القيم والأخلاق التى تنتمى إلى ثقافات سابقة من أزمنة أخرى يتقدم زاحفا وأحيانا كاسحا. والصدام واقع لا محالة ونتيجته مازالت غير مؤكدة.
•••
نشرت صحيفة إنجليزية مرموقة منذ أيام قليلة تحقيقا عن غزو منظم تقوم به جحافل «التوك توك» لمدينة لندن. يأتى الغزو فى وقت تصر فيه بلدية لندن على سحب أعداد غفيرة من سيارات التاكسى السوداء الفسيحة التى اشتهرت بها إنجلترا.
وصل «الريكشو» إلى لندن، كما سبق ووصل إلى القاهرة، محمولا على أعناق أزمة اقتصادية واجتماعية. هكذا يقع الغزو. غزو الماضى للحاضر وغزو الأقلية لمواقع الأغلبية.