أسعار الفائدة بين التضخم والركود - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:42 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أسعار الفائدة بين التضخم والركود

نشر فى : الإثنين 27 يونيو 2022 - 8:25 م | آخر تحديث : الإثنين 27 يونيو 2022 - 8:25 م
لا أجد تعبيرا مبسطا عن توازنات الاقتصاد أبلغ من ذلك الذى وصف به الفنان الراحل سمير غانم فى مسرحية «المتزوجون» ما أصاب «جاكت» البدلة من تضخم حينما قام بتقصير «البنطلون»... بالفعل أنت دائما تتخذ العديد من القرارات بهدف احتواء مرض اقتصادى أو تهديد بتفاقم ذلك المرض، فتواجه مخاطر ظهور أمراض أخرى ناتجة عن تلك القرارات.
بالأمس القريب كان البنك المركزى المصرى على موعد مع قرار بشأن أسعار الفائدة، توقعت معظم الأذرع البحثية للبنوك أن يتم رفع أسعار الفائدة بين نقطة مئوية ونقطتين، على خلفية قيام الفيدرالى الأمريكى برفع أسعار الفائدة بنقطة مئوية إلا ربع وهى الزيادة الأكبر منذ عام 1994، وقد أعقب خطوة الفيدرالى قيام البنوك المركزية فى دول الخليج برفع أسعار الفائدة بنسب متفاوتة. كذلك ارتكزت توقعات الاقتصاديين والمراقبين على استمرار معدلات التضخم السنوى فى مصر فى الارتفاع متجاوزة التضخم المستهدف (نسبته 7% زائد أو ناقص 2%) بأكثر من الضعف، بعدما بلغ فى مايو الماضى 15.3%.
لكن المركزى خالف التوقعات وقام بتثبيت أسعار الفائدة عند 11.25% للإيداع و12.25% للإقراض. لم يشذ المركزى المصرى عن نظرائه فى دول الخليج عندما بدأ الفيدرالى فى تحريك أسعار الفائدة من مستوياتها قرب الصفرية مارس الماضى إلى ما يدور بين 1.5% و1.75% اليوم. وقد أقدم المركزى المصرى بالفعل على رفع أسعار الفائدة بثلاثمائة نقطة أساس خلال ذات الفترة (ثلاث نقاط مئوية) وطرح المصرفان الأهلى ومصر شهادات الادخار لمدة عام بمعدل عائد استثنائى بلغ 18% لامتصاص فائض السيولة وكبح جماح التضخم. لكن مخالفة المركزى المصرى للتوقعات ولاتجاهات التحريك فى دول الخليج العربى هذه المرة جاءت تحت ضغوط وظروف معينة، جعلت من التثبيت قرارا لا يخلو فى رأيى من مقدمات وتبعات.
• • •
فيما يتعلق بالمقدمات، فقد امتلأ الفضاء الإلكترونى بالمنظرين الذين رأوا فى ملاحقة الفيدرالى الأمريكى برفع الفائدة تهديدا للاستثمار ومحفزا للركود، إذ إن رفع أسعار الفائدة على الإقراض من شأنه أن يرفع تكلفة الأموال، وينأى بالمستثمرين عن التمويل المصرفى لمشروعاتهم الجديدة أو للتوسع فى المشروعات القائمة، بما يحمله ذلك من مخاطر تراجع التشغيل والإنفاق، وفقد فرص العمل، وركود السلع والخدمات... إلى غير ذلك من نتائج منطقية لا تخلو منها كتب الاقتصاد المدرسية.
كذلك جاء الحديث الإعلامى لوزير المالية عشية اجتماع المركزى برسائل واضحة، تتوقى ارتفاع أسعار الفائدة فى مصر خشية إضافة أعباء جديدة على وزارة المالية (المدين الأكبر فى البلاد) متمثلة فى زيادة تكلفة خدمة الدين والتى اقتربت بالفعل من 40% من آخر موازنة عامة! وجاء فى حديث وزير المالية ما مفاده أن المستثمر الأجنبى بأمواله «الساخنة» (والمقصود التى تدخل شراء فى أدوات الدين مثل السندات الحكومية وأذون الخزانة ثم تفر سريعا تحت أى ظرف غير موات) قد «خرج بالفعل» فى إشارة إلى أن الاستمرار فى رفع أسعار الفائدة بغية الإبقاء على الأموال الساخنة التى لا يرجى إعادة جذبها قريبا لن يكون ذا جدوى، وأن الخاسر الأكبر من استمرار رفع أسعار الفائدة هو الموازنة العامة للدولة، ومن ورائها المواطن المصرى الذى تقتطع حكومته نسبة كبيرة من إيراداتها للإنفاق على خدمة الدين.
إذن هناك من يرى أن رفع أسعار الفائدة يعد حافزا سلبيا للاستثمار الجاد المستقر (غير الساخن) بما يعزز من فرص حدوث ركود فى البلاد مصحوب بالتضخم (فيما يعرف بالركود التضخمى). وأيضا هناك من يرى العائد السلبى لمزيد من الرفع على تكلفة خدمة الدين العام دون وجود أى فرص لاستبقاء أو إعادة جذب الأموال الساخنة المطلوبة فى الأجل القصير على الأقل، لتوفير احتياجات مصر من النقد الأجنبى وتلبية ضرورات الاستيراد... كما أن كبح التضخم الناتج عن فرط السيولة (جانب الطلب) قد استهلك أغلظ أدواته من خلال شهادات العائد السنوى الكبير السابق الإشارة إليها (18% سنويا)، أما التضخم الناتج عن ضغوط فى جانب العرض فلن يزيدها رفع الفائدة إلا سوءا وترديا، نتيجة ما تفرضه من قيود على الاستثمار سبق شرحها.
إلى هنا تبدو وجاهة الطرح القائل بتثبيت أسعار الفائدة، بل وتبدو وجاهة تخفيض أسعار الفائدة لتحفيز الاستثمار كما فعل المركزى الروسى أخيرا فى مشهد استعراض للقوة أمام الفيدرالى الأمريكى الذى لا يكتفى بالرفع المستمر للفائدة، بل ويعد باستمرار الرفع خلال العام الحالى حتى تبلغ مستويات الفائدة ما يقرب من 4% (وفى تقديرات متشائمة لمعدلات التضخم قد تبلغ مستويات الفائدة 5% فى بداية عام 2023).
• • •
على الجانب الآخر من هؤلاء يقف الجهاز المصرفى المصرى متمثلا فى البنوك التجارية المقرضة للحكومة فى انتظار عائد أكبر، نظير المخاطر التى تتحملها من الاستمرار فى تغطية الاكتتابات فى أدوات الدين العام، بما وصل معه الدين المحلى العام إلى 4.7 تريليون جنيه نهاية يونيو عام 2020. تلك البنوك المقرضة للحكومة وجهاتها التابعة تريد أن تحصل على فوائد أعظم، نظير توجيه جانب كبير من مدخرات المودعين لسد عجز الموازنة العامة، وتوفير الأموال اللازمة للإنفاق العام.
كذلك ينظر البنك المركزى المصرى بعين القلق إلى احتياطى النقد الأجنبى الذى تراجع إلى 35.5 مليار دولار بنهاية مايو الماضى مقارنة بنحو 41 مليار دولار يناير الماضى، بما يؤثر سلبا على قدرة الجهاز المصرفى فى تدبير العملة الصعبة اللازمة للاستيراد (وإن كان هذا الاحتياطى يغطى خمسة أشهر من احتياجات الاستيراد). وقد لجأ المركزى إلى تقييد الاستيراد ببعض التدابير والمتطلبات التى اعترض عليها مجتمع المستوردين وتم تخفيفها سريعا ثم إلغاؤها نظريا على الواردات الأساسية، وإن كان البعض يشير إلى استمرار عدد من القيود على تدبير العملة الصعبة من البنوك. المركزى ينظر أيضا إلى عدم حدوث أى تغير إيجابى فى المشهد الاقتصادى العام محليا وعالميا، وهناك فى الاقتصاد ما يعرف بـ«فرض ثبات العوامل الأخرى»، ففى حالة ذلك الافتراض فإن قيام الفيدرالى الأمريكى برفع أسعار الفائدة يستدعى تحركا مماثلا من معظم الدول التى تعتمد على الدولار للقيام بأكثر من وظيفة؛ فهو عملة الاحتياطى، وهو عملة تقويم الدين الخارجى وعملة سداده، وعملة الوفاء بالجانب الأكبر من التعاملات التجارية حول العالم، بل هو عملة التداول المحلى لعدد من الدول السائد فيها ما يعرف بالدولرة مثل لبنان.
رفع الفائدة على الدولار الأمريكى مع ثبات جميع العوامل الأخرى (أو تدهورها) يعنى دولارا أقوى أمام العملة المحلية، وأصعب فى التدبير للاستيراد ولسداد التزامات الدين الخارجى ومتطلبات التجارة ودعم الاحتياطى من النقد الأجنبى... كذلك يعنى رفع الفائدة على الدولار خروج المستثمر فى أدوات الدين المقومة بالجنيه المصرى لصالح العملة الصعبة التى باتت أكثر إغراء، خاصة إذا لم يواكبها رفع معنوى فى أسعار الفائدة على الجنيه المصرى لإقناع تلك الأموال الساخنة بالبقاء. فلو أن أسعار الفائدة على أدوات الدين العام المصرية كانت مقومة بكفاءة بحيث تعكس العلاقة بين الجنيه والدولار، فإن أى زيادة فى العائد على الدولار لابد أن يقابلها زيادة فى العائد على الجنيه. أما لو كانت الفائدة قد تم تقديرها بشكل مغالى فيه قبل تحريك الفائدة على الدولار، فإن المستثمر الأجنبى سوف يظل مفضلا أدوات الدين المقومة بالجنيه حتى مع رفع الفائدة على الدولار... هذا التصور الأخير لا يقبله المنطق الرشيد، بل ولن تقر به أبدا وزارة المالية أو وكيلها للطرح (البنك المركزى المصرى) لأنه يعنى أن الأموال الساخنة كانت تكافأ بأكثر مما ينبغى. وعليه فإن عدم التحرك برفع الفائدة على الجنيه استجابة لرفعها على الدولار الأمريكى يثير تساؤلات.
كذلك فإن مرونة العرض المصرفى والطلب الاستثمارى على الأموال فى مصر تجاه تغيرات سعر الفائدة تحتاج إلى دراسة، إذ إن المشاهد تفضيل البنوك للاستثمار الآمن والمربح جدا فى أدوات الدين الحكومى على المخاطرة بإقراض المشروعات الخاصة! كما أن المشروع الخاص لا يضع تكلفة الأموال على قمة أولويات قراره الاستثمارى، نظرا لاعتماده على بدائل التمويل الذاتى والقروض الميسرة من مبادرات البنك المركزى، والقروض التى لا تحتاج إلى ضمانات كثيرة من مصادر أخرى على الرغم من ارتفاع تكلفتها... فضلا عن كون ارتفاع تكاليف عناصر الإنتاج الأخرى مثل الأرض والتكنولوجيا تخفض من أهمية تكلفة التمويل. بالتالى فإن الزعم بأن مزيدا من الرفع فى أسعار الفائدة يضر بالاستثمار الخاص بشكل مباشر ليس دقيقا. بل إن مرونة الاستثمار لسعر الصرف فى مصر تبدو أكبر كثيرا من مرونته لسعر الفائدة، ومن ثم فإن بقاء أسعار الفائدة دون تغيير يعنى جنيها أضعف نسبيا من حقيقته، فإذا لم تتحرك أسعار الصرف مجددا، فإن كثيرا من الأموال سوف تفضل الدولار كوسيط للتبادل ومخزن للقيمة ومنتَج للاستثمار، أما إذا انخفضت قيمة الجنيه أمام الدولار، فإن ذلك يعنى ضغوطا عظيمة على المستهلك وعلى المنتج، اللذين يعتمدان على الاستيراد للاستهلاك والإنتاج.
• • •
تلك هى المعضلة التى حسمها المركزى بقرار أراه أقرب إلى ترحيل الأزمة للاجتماع المقبل للجنة السياسات النقدية، والذى أتوقع معه أن التحريك المقبل لأسعار الفائدة سيكون كبيرا وربما يسبقه تحريك لسعر الصرف.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات