ينحو اليقين المعرفى اصطلاحا إلى سكون الفهم مع ثبات الحكم، فيما يتجه مقصوده اللغوى إلى العلم الذى يتجاوز مجرد المعرفة ولا تأتيه الريبة من بين يديه ولا من خلفه. أما مفهوم اللا يقين فينصرف إلى ارتباك الإدراك أو عدم اكتمال المعرفة جراء نقص المعلومات، أو عدم دقتها، أو الشك فى صحتها، أو غموض الأمر، أو تعدد الفروق الفردية بين البشر فى العلم والخبرة، بما ينعكس على رؤيتهم للواقع وفهمهم للحقائق.
وشأنه فى ذلك شأن «النموذج المعرفى أو التفسيرى» المنسوب إلى الفيزيائى توماس كون، قبل أن تتناقله العلوم الاجتماعية، ينبثق«اللا يقين المعرفى» أصلا من العلوم الطبيعية، وتحديدا مبدأ «عدم اليقين»، الذى صاغه العالم الألمانى هايزنبرج عام 1927، ليغدو عمادا لنظرية الكم، ثم يتأثر به الفكر الإنسانى، حتى يغدو بمثابة زلزال علمى يطيح ثوابت معرفية مزمنة لامست حدود المسلمات أو المطلقات، ليتراءى للإنسان كم لا يمكنه قياسه ومجهول يعجز عن الإحاطة به.
ملبدة بغيوم اللا يقين، جاءت جائحة كورونا لتضع التقدم العلمى ومن قبله الإنسانية جمعاء أمام اختبار وجودى ومعرفى عسير. فبينما دأب كارل ماركس، على انتقاد الفلاسفة الغارقين فى تفسير العالم بدلا من محاولة تغييره، وفلاسفة الأخلاق العاكفين على الدعوة إلى «أنسنة العلم» و«أخلقة التكنولوجيا» لتخليصهما من «التوحش» الذى يهدد حياتنا، حرر الكاتب السورى البريطانى نورى الجراح، قبل قليل، كتابا طوى إسهامات لثمانية عشر مثقفا عربيا، حول «كوفيدــ19»، بعنوان: «أجراس الوباء، الأناركية الاصطناعية وإعادة تكوين العالم»، يدعو إلى قطيعة معرفية ولاهوتية مع الماضى بعدما انبرى فى تكييل الانتقادات للمنجز الحضارى البشرى الحديث، الذى أنتج المركزية الأوربية والهيمنة الأمريكية والعولمة والليبرالية المتوحشة. وفيما يشبه الديستوبيا الكورونية، احتفى الكتاب بكشف الجائحة إهمال الأنظمة المتقدمة للإنسان، مطالبا بإعطاء الخطاب الإنسانوى، باعتباره سرديات صغرى، مكانته الوازنة بين القوانين والأنظمة الانتهازية، بوصفها سرديات كبرى، وإعادة الاعتبار للعقل مقابل تغول الرأسمالية، وأنسنة العولمة، وتعزيز الوعى الفنى والإيكولوجى، ولزوم تجاوز الديستوبيا الناجمة عن الجائحة. بدوره، وبعدما أقر بتعرية أزمة كورونا لضعف عالمنا وعنصريته وهشاشة برامجه ومنظوماته الصحية، طالب الأمين العام للأمم المتحدة، بإعادة تشكيل النظام الدولى على أساس التعددية القطبية كآلية حوكمة عالمية، وإبرام «صفقة عالمية» لضمان التوزيع العادل عالميا للقوة والثروة والفرص، مع نبذ التمييز والعنصرية البنيوية واللا مساواة الممنهجة.
وفى كتابة المعنون «سيكولوجية الجائحة»، الذى نشره نهاية عام 2019، سلط عالم النفس الأمريكى ستيفين تايلور، الضوء على أسماه السلوك المجتمعى للجائحة، عبررصد ردود الأفعال المختلفة حيالها، ما بين الاستهتار، والقلق، والانزعاج من العزل والتباعد الاجتماعى، والثقة المفرطة بالذات وصولا إلى الإنكار. وأبرز تايلور دور اللايقين فى إشاعة الهلع بين الناس جراء الخوف من الموت جراء الإصابة بكورونا، وفى ذلك يقول بارى غلاسنر، بروفسور السيسيولوجيا الأمريكى ومؤلّف كتاب «ثقافة الخوف»: «إننا نعيش فى أسوأ مناخ رهاب عاشه البشر إثر وجود تراكم نفوذ ورأسمال لدى جهات وأفراد تتوافق مصالحها فى الهيمنة على تعظيم الخوف وتعميمه فى المجتمعات الحديثة». ولعل هذا ما يفسر عودة بعض دول العالم إلى فرض الإغلاق مجددا على وقع استمرار تفشى كورونا.
وتكمن خطورة الهلع المتولد عن اللايقين فى أنه يؤدى، حسب إيمانويل كانط، إلى تكبيل قدرة البشر على التصدى للملمات. ففى سياق تسابقهم لابتكار لقاح لفيروس «كوفيدــ 19»، تهافت الأطباء لتجربة أدوية تعالج أمراض قائمة وتباروا فى إعلان التوصل للقاح، ما اعتبره ستيفن نيسن، الباحث فى كليفلاند كلينك، تعجلا يجافى النهج الفعال للبحث العلمى، خصوصا بعدما أكد السير جون بيل عالم المناعة بجامعة أكسفورد، أن الفيروس قد يرافقنا أبدا مع استحالة القضاء نهائيا على العنصر المسبّب لعدواه، واستبعاد وجود تأثير مناعى مستدام لأى لقاح محتمل. واستشهد بيل بنموذجى فيروس الإيدز، وفيروس شلل الأطفال. ولقد تمخض هذا التسرع الطبى عن أزمة ثقة طالت منظمة الصحة العالمية، التى لاحقتها اتهامات بعدم الحياد والتباطؤ فى الاستجابة للجائحة، علاوة على سواء إدارة الأزمة، على نحو ما تجلى فى تقاريرها المتضاربة بشأن طرق انتقال عدوى فيروس «كوفيدــ19»، أو تحوله الجينى، وتعاملها المتذبذب مع الأدوية المقترحة لعلاجه كأدوية هيدروكسى كلوروكين، وديكساميثازون، وريمديسفير.
لم يكن مستغربا أن يسفر اللايقين بشأن كورونا، عن تفشى ظاهرة التضليل المعلوماتى المتعمد، أو «وباء المعلومات» Infodemic. ففى كتاب سطره مؤخرا عن حرب المعلومات، أكد السياسى الأمريكى ريتشارد استنجل، تورط عدد كبير من الفاعلين العالميين، من الدول وغيرها، فى شن حملات محكمة ومحددة الأهداف للتضليل المعلوماتى حول كورونا عبر منصات التواصل الاجتماعى استنادا إلى قانون «الاستقطاب الجمعى»، ما فتح الباب على مصراعيه أمام انتشار عدد من التراهات والأكاذيب كالنار فى الهشيم، وكأن العالم لم يتجاوز زمن الأساطير ولا يزال يحتفظ وعيه الجمعى بمخزون منها يلجأ إليه كلما استعصى عليه تفسير ما يعجز تقدمه العلمى عن سبر أغواره. ولعل هذا ما دفع بروفيسور جامعة هارڤارد إدوار ويلسون للقول: «مشكلتنا الحقيقية أن لدينا انفعالات العصر الحجرى، ومؤسسات القرون الوسطى، فى عصر السوبر تكنولوجيا».
ومثلما كان متوقعا، شكلت أجواء اللا يقين التى تحيط بكورونا عائقا أمام صياغة نظام فعال للإنذار المبكر بالأمراض المعدية والجوائح الوبائية، والذى بمقدوره تزويد المواطنين ومسئولى الصحة العامة بإشعارات مسبقة حول احتمالية تفشى الوباء فى بقعة ما، وبالتالى توسيع نطاق خيارات الاستجابة الممكنة؛ فلما كانت أنظمة الإنذار المبكر تستخدم العديد من الأساليب الإحصائية الضرورية للكشف عن التغيرات فى اتجاهات انتشار الأمراض والأوبئة، أو الأحداث المحفزة، سواء كانت مناخية أو مرتبطة بموجات انتقال للأفراد، والتى تتطلب التدخل العاجل فى معظم الحالات، تتأتى المعضلة فى أن محاولة تشكيل الاستجابة من خلال التنبؤات لفترة زمنية طويلة، عادة ما تعنى يقينًا تنبؤيا أقل، الأمر الذى يضعف من فعالية النظام، كما يبرز الحاجة الماسة إلى معرفة أكثر يقينية.
كدأبها، عمدت الدول الكبرى إلى أمننة جائحة كورونا، عبر تغليب المقاربات الأمنية فى التعاطى معها. فبينما لم يتورع الأمين العام لحلف شمال الأطلسى عن الإعلان أن الحلف تعاطى مع الأزمة الصحية على النحو الذى يحول دون تحولها إلى أزمة أمنية، لم تتردد أوساط غربية فى استحضار نظرية المؤامرة باعتبارانتشار فيروس «كوفيدــ19» مؤامرة صينية فى سياق حرب بيولوجية ضد الغرب. فعلى مدى تاريخها، شهدت البشرية سرديات تآمرية لجميع الأزمات الوبائية التى عصفت بها، حيث تفضى أجواء الخوف واللا يقين المصاحبة لها إلى انبعاث سرديات تآمرية تدفع عند نسج حبكتها، إما لبناء تفسير غيبى أو أسطورى ربما يجافى المنطق عند طرح التفسيرات للأزمة، عبر الربط السببى الوهمى بين أحداث متزامنة أو متعاقبة، بغير دليل ثبوتى مشترك بينها، أو تجنح لاستنتاجات اختزالية تبسيطية تربط الأوبئة بالسياقات الصراعية التى تنشأ فيها، دون إيلاء أهمية للتطور الطبيعى للأحداث.
فى غضون ذلك، تحول التنافس العلمى الهادف لإيجاد لقاح لفيروس «كوفيدــ19» إلى صراع استخباراتى وسطو بحثى وقرصنة علمية، لتعرج كورونا بالبشرية إلى حقبة المجال الاستخبارى الرابع، الذى يختص بالحروب البيولوجية، والموجات الوبائية، والسرقات العلمية والقرصنة الطبية، ما يعنى تغيرا فى أولويات وآليات أجهزة الاستخبارات العالمية بما يتسق والتهديدات الكونية الجديدة، بحيث تغدو «الاستخبارات الوبائية» ركنا ركينا فى منظومات الأمن القومى لدول العالم فى قابل الأيام.
ومن ثنايا موجات التخبط والغموض واللايقين التى تكتنف جائحة كورونا، برأسه يطل اليقين السرمدى الوحيد المتمثل فى ثنائية الحياة والموت. وفى كتابه «الفيض.. أمراض الحيوانات المعدية وجائحة الوباء التالية بين البشر» الذى صدر فى عام 2012، يشير ديفيد كوامن، إلى أن الإنسان فى كل محنة تاريخية عظمى، يتوجه بخطابه الرشيد أو الروحانى إلى وجهتين جوهريتين: أولاهما، الدين.وثانيتهما، العلم، أو ما نسميه بمعركة العقل لفك طلاسم الغموض الذى يلف حياتنا. ومن رحم هاتين الوجهتين تتولد القوة، أو الطاقة التى تعيد إنتاج الحياة، بعد كل نازلة كبرى، وعبرهما ومن خلالهما أيضا، يرنو الإنسان، وهو فى أوج صراعه ضد وحشيته أوقسوة الطبيعة، إلى التغلب على هاجس الخوف الذى يسكنه إزاء حالات اللافهم والعجز المادى أو المعنوى حيال العالم الغامض، وفكرة «ردع الخوف» هى عملية بحث عن الاطمئنان، أى الاستمتاع بشهوة الحياة من دون التفكير فى كابوس الموت!
ففى صراعه مع وباء كورونا، قد يخفق الجهاز المناعى لدى قطاعات عريضة من البشر، لاسيما الطاعنين فى السن أو أولئك الذين يعانون أصلا ضعف المناعة أو أمراض مزمنة كالسكرى والقلب والأوعية الدموية واضطرابات حادة فى الجهاز التنفسى، فى مقاومة الفيروس المسبب للوباء أو مجابهة تداعياته، ومن ثم تدركهم الوفاة، حسب المركز الأمريكى لمكافحة الأمراض والوقاية منها CDC، ليبقى الموت هو الحقيقة المطلقة والثابتة التى لا تقبل التشكيك فى دنيانا، حتى أن المولى عز وجل وصفه فى كتابه الكريم بأنه اليقين، حينما خاطب نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، خطابا ينسحب ما به من تكليف على كل مؤمن موحد بالطبع، فى الآية 99 نهاية سورة «الحجر»، «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ». فها هنا ينصرف مفهوم اليقين إلى الموت ونهاية مكوث الإنسان فى دنيا الناس، حيث أمر الحق تبارك وتعالى نبيه الخاتم وكل من والاه واتبع هداه بالاستقامة على طريق الله والاستمرار فى عبادته وحده جل شأنه إلى أن توافيه منيتة. وفى موضع قرآنى آخر، وتحديدا فى الآية 43 من سورة «المدثر»، كرر سبحانه وتعالى لفظ اليقين للإشارة لذات المعنى حينما أورد على لسان أهل النار، «وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين»، فهنالك أيضا، يعبر اليقين عن الموت ونهاية الحياة ودخول البرزخ، الذى يعد أولى مراحل الحساب والدار الآخرة.
فى المقابل، بمقدور الإنسان الصمود والنضال ضد شراسة فيروس «كوفيدــ19»، حتى ينتصر عليه وتكتب له النجاة، فيخرج من معركته سالما معافى بل وأشد مناعة من ذى قبل، بينما يلحق المرض بسابقيه من الجوائح الوبائية، التى فعلت بالبشرية ما فعلت، لكنها لم تلبث أن تمضى بغير رجعة، لتظل إرادة الإنسان الفطرية والملحة للبقاء، هى الأقوى مهما تزاحمت التحديات أو احتدم الصراع الكونى الأبدى بين ثنائية الحياة والموت.