يشغلنى دوما نموذج المتحولين. لماذا يتحول البعض من موقف إلى آخر بشكل درامى وعنيف؟ لماذا لمن نظر للديموقراطية والثورة والحرية والعدالة يتحول فى وقت قصير إلى منظِر للديكتاتورية والقمع وكبت الحريات؟ لماذا تبكى إحداهن على أخلاق المجتمع المتدهورة لأنها سمعت أحدهم «يشتم» بينما هى نفس الشخصية التى وقفت مؤيدة لعمليات القتل الجماعى واستباحة الدماء فى الميادين؟ لماذا يتحول عالم فى علم النفس إلى داعية لعسكرة المجتمع، مطالبا بتجنيد الأطفال الصغار فى سن «الحضانة»، باعتبار أن ذلك فيه خلاص المجتمع؟ الانشغال بهذه الأسئلة هو محور اهتمام علم النفس السياسى والذى يحاول البحث عن دوافع السلوك البشرى بشكل عام والسياسى بشكل خاص، ومنه تم تطوير نظريات فى الدعاية السياسية، والتى يتم استخدامها على نطاق واسع فى الحملات السياسية، لكسب أصوات الناخبين.
فى مصر يقدم كثيرون تفسيرا أخلاقيا للتحول فى المواقف السياسية، معتبرين أن التحول الدرامى فى الموقف والسلوك السياسى، هو نتيجة «لانعدام الأخلاق» أو «السعى وراء السلطة ونفاقها بحثا عن المكاسب»، رغم أن هذه التفسيرات تظل صحيحة إلا أنها وحدها غير كافية لتفسير هذه الظاهرة والتى لابد وأن لها أسباب أخرى أكثر قدرة على التفسير، خاصة أن كثيرين ممن حولوا مواقفهم ربما لم تعد تلزمهم المناصب أو السلطة، فهم ممن أسسوا تاريخا مشرف فى مجالاتهم ولا تنفع معهم التفسيرات السطحية إذن.
***
فى تقديرى، أنه وبالإضافة لاحتمال تغير القناعات السياسية التى قد تؤدى فى بعض الحالات إلى تغيرات فعلية فى السلوك السياسى، فإن أسبابا أخرى قد تقف وراء هذه التغيرات وقد تعلمت السلطة عبر سنواتها الطويلة، كيف يمكن استخدامها لأكل لحم كتف النخب والجماهير على السواء:
• يتحولون بسبب «العمر»، صحيح أنه لا يمكن التعميم، وصحيح أن العديد من «كبار السن» مازالوا قادرين على تقديم أفكار وأطروحات أكتر تقدمية وتحرر من الكثير من الشباب، إلا أن الغالب على كبار السن هو الاتجاه إلى المحافظة الفكرية والمجتمعية والسياسية. كبر السن يرتبط عادة بمفهوم «التقاعد» والبعد عن الأعين، أعين السلطة والجماهير معا، كما أنه يرتبط بلحظة الشجن والحنين إلى الماضى وإنجازاته، أن تدفع بك السلطة إلى مقاعدها أو يدفع بك الإعلام إلى الأضواء، أو حتى أن يقدم لك الحاكم حكاية «مزيفة بالضرورة» عن إمكانية العودة إلى الماضى، أو بعبارة أخرى إعادة استنساخ الماضى فى الوقت الحاضر، فهى بالضرورة تجذبك لترديد أساطير قديمة على أنها حقائق جديدة يمكن تبنيها.
• يتحولون بسبب «الخوف»، ولعل الدراسات الأكاديمية العربية مازالت فى رأيى لم تول اهتماما كافيا بشعور «الخوف» كمحدد للسلوك السياسى بعكس الدراسات الغربية، والتى أولت اهتماما أكبر باستغلال السلطة لحالة «الخوف». وهو ما يدفعها نحو حالة «هيستريا» مكتملة الأركان لدفع الناس بعيدا عن العمل العام وتفويضهم السلطة للقيام بمهام حماية الوطن أو التأثير على قدراتهم العقلية لاتخاذ مواقف رشيدة ومتسقة بشأن الأوضاع الحالية.
• تأكل السلطة لحم الكتف من ناحية «الجنس». فقبل أكثر من قرن من الزمان كتب جوستاف لو بان كتابه الشهير «سيكولوجية الجماهير» وترجمه للعربية هاشم صالح وصدر عن دار الساقى فى بيروت عام ١٩٩١، وخصص فصلا فيه عن الطريقة التى يسوق بها الإعلام القائد للجماهير باعتباره «ذكرا فحلا» فيراه العديد من المكبوتين أو غير الراضين عن حياتهم الجنسية بديلا وقائدا وأسطورة جنسية مناسبة، تعوضهم نفسيا عما فقدوه فى حياتهم الحسية.
• يتحولون بسبب «الضعف البشرى»، تعرف السلطة أن أى بشر ضعيف بالضرورة أمام شهوات كثيرة، مادية أو معنوية، ومن هنا وبقدراتها على التجسس والتصنت بعيدا عن القانون على حياة الناس، تتمكن من تسجيل «فضائح» عليهم لمسوامتهم لاحقا، فإما الخرس عن الأوضاع غير العادلة أو فضح الأسرار. ولأن الجماهير عادة لا تريد أن تتفهم أن ملهميها الأبطال هم فى النهاية بشر، فهم لا يتقبلون إلا أن يروهم فى أوضاع كاملة كالرسل والأنبياء، ومن ثم ففضح هؤلاء الملهمين يكون بمثابة تحطيم أسطورتهم إلى الأبد، فيقرر الأخيرون الانصياع لمساومة وابتزاز السلطة عادة.
• يتحولون بسبب «الشهرة»، فهؤلاء الباحثون عن الشهرة بأى ثمن ما أسهل التهامهم وتدجينهم بواسطة السلطة. مهمة سهلة وسلسة وبسيطة، إذا أردت أن تظل محل أنظار الجماهير عليك أن تدرك معادلة السلطة الحالية، وإذا ما تغيرت المعادلة، فعليك أن تعرف كيف تغير دفتك بحرفية للتماهى مع السلطة الجديدة ومعادلاتها، فمغازلة الإسلاميين لها وقت، ومغازلة العلمانيين لها وقت. كذلك الحديث عن الدولة المدنية له وقت، والحديث عن عسكرة الدولة كضرورة وطنية ملحة لها وقت آخر. الديموقراطية والثورة والعدل والحرية لهم موسم، والسلطوية والاستبداد والأمن القومى لهم مواسم أخرى، وجه بوصلتك ناحية السلطة أينما رست، وستظل محل أنظار الجميع ومحل إعجابهم.
• يتحولون بسبب «الدين»، فمهما فجرت السلطة فى تخطى كل القيم الإنسانية أو الأخلاقية، إلا أنك تجدها هى وكل المعبرين عنها والمساندين لها فى حالة تدين دائمة، فهى السلطة التى تحج، هى السلطة التى تعتمر، هى السلطة التى لا تتوقف أبدا عن ذكر الله، عن ترديد الأدعية والآيات والتراتيل، عن تذكيرك بالأحاديث، عن استغلال المناسبات الدينية وتحويلها إلى موالد لإظهار مظاهر التقى والورع. هى السلطة التى تهادى وتتهادى بنسخ من الكتب المقدسة، هى سلطة «جمعتكم مباركة»، هى السلطة التى تدعوك إلى قراءة سورة الكهف فى أيام الجمع، هى السلطة التى تدخل إلى حجر النوم لضبط علاقات الناس الخاصة لإرضاء الرب، وهى أيضا السلطة التى تقتل وتعتقل وتعذب وتحرم الناس من أبسط حقوقهم المدنية والجنائية ثم تجد دراويشها يرددون «بارك الله فيكم».
• يتحولون بسبب «لقمة العيش»، إذا أردت أن تعيش مستورا فى بلادنا فعليك إذن أن تعيش «موظفا»، أن «تأكل عيشا»، ألا تتخطى الخطوط الحمراء. فى أى موقع فى الدولة عليك أن تكون مطيعا حتى تحافظ على موقعك وعلى امتيازات قد تتكرم السلطة عليك بها، ينطبق هذا على موقع الخفير والوزير لا فرق، هل تملك رفاهية معارضة السلطة أو الحديث بعكس منطقها؟ حسنا إن كنت تملك هذه الرفاهية فلتضع أكل عيشك وأمنك ومستقبل أولادك وأسرتك وسمعتك على المحك، لنرى من سيضحك أخيرا.
***
عبر سنوات وعقود طويلة من الممارسة، تمكنت السلطة من تطوير قدراتها على تحويل مواقف النخب والجماهير من نواحى متعددة. كما عرفت الجماهير والنخب بالتجربة والخطأ كيف تتعامل مع هذه السلطة وتطاوعها بقناعات حقيقية أو زائفة، تأييدا لها أو إتقاء لشرها. هذه العلاقة المعقدة والمستقرة فى الوقت ذاته بين السلطة من ناحية والجماهير والنخب من ناحية ثانية هى جوهر النظام السياسى (أى نظام سياسى)، لكنه يشهد استسلاما تاما من قبل الجماهير والنخب لسلطة متجبرة وشرهة فى حالة النظم السلطوية، وقدر من المقاومة والتوازن فى حالة المجتمعات الأكثر ديموقراطية وتحضر. كانت يناير لحظة تمرد على هذه المعادلة ولكنها منيت بهزيمة ثقيلة فى يونيو والتى أعادت المعادلة إلى سابق عهدها معنفة الجماهير والنخب معا على هذا التمرد ثم قامت بمعاقبة و«تكدير» الجميع مؤيدا ومعارضا حتى لا ينسوا أنفسهم.
بالتأكيد لن ننسى أنفسنا واعترفنا بهزيمتنا، ولكننا نعتبرها هزيمة مؤقتة أو هكذا نظن حتى نتعلم دروس الماضى.