نشهد هذه الأيام العرس الثقافى السنوى الأكبر فى مصر وهو معرض القاهرة الدولى للكتاب، أنا أحرص أن أحضر هذا المعرض كلما استطعت لذلك سبيلا ولم أكن على سفر، الوجود وسط الكتب ووسط جمع غفير من الناس هو شعور جميل فى حد ذاته، وتبادل الآراء عن الكتب مع الأصدقاء من القراء والناشرين والكتاب هو متعة عقلية بالنسبة لى. ونحن فى رحاب هذا الحدث السنوى الجميل أحب أن أشارك القراء الكرام فى بعض الخواطر حول الكتب والقراءة وصناعة النشر.
هناك الكثير من الفاعليات الثقافية أثناء المعرض وهذا شىء جميل، لكن النظر لتلك الفاعليات يجعلنا نقسمها إلى قسمين نادرا ما يجتمعان: القسم الأدبى والثقافى والقسم العلمى، والفاعليات المتعلقة بالعلم قليلة بالمقارنة بتلك المتعلقة بالأدب والثقافة والفن. ماذا عن تكامل العلم والأدب؟ ألا يمكن أن تكون هناك ندوات تجمع بين الأدباء والعلماء يناقشون موضوعا ما من جوانب مختلفة، تخيل مثلا موضوعا مثل الاحتباس الحرارى والتغير المناخى وكيف يمكن مناقشته من الجانب العلمى (وهو الشىء الطبيعى) ومن الجانب الأدبى (وهو شىء مبتكر)، أو تخيل موضوعا مثل أدبيات السرد عند أحد الكتاب الكبار وكيف تتم مناقشته من ناحية أدبية (وهو الطبيعي) ومن ناحية علمية (وهو شىء مبتكر).
تشارلز بيرسى سنو هو عالم كيميائى إنجليزى وروائى، وهو يمارس المهنتين، سنو كان يقضى وقتا مع أصدقائه العلماء ووقتا مع أصدقائه الأدباء ثم درس الاختلافات فى الطباع وطرق التفكير بين المجموعتين وقدم ذلك فى محاضرة تحولت لاحقا إلى كتاب شهير بعنوان «الثقافتان» وفيه يصل إلى نتيجة مفادها أن هذه التفرقة والعزلة بين المجموعتين تضر بقدرة المجتمع على حل المشكلات التى تواجهه. لماذا لا يتبنى معرض الكتاب مبادرة الجمع بين العلم والأدب لمناقشة المشكلات التى تهم العالم بوجه عام ومصر على وجه الخصوص؟
زيارة معرض الكتاب وحضور الفاعليات الثقافية يفتح الباب لسؤال متعلق بالذكاء الاصطناعى: هل الذكاء الاصطناعى يستطيع أن يقتحم المجال الثقافى ويحتله مثلما فعل فى مجالات أخرى عديدة؟ فى الأسابيع الأخيرة انتشرت بشدة معلومات عن برنامج (chatGPT) من شركة (OpenAI)، هذا برنامج محادثات أى إنه يمكنك أن تتحدث معه كتابة فى موضوعات عديدة، ما يهمنا هنا هو أنه يمكنك أن تطلب منه أن يكتب لك بحثا فى موضوع ما أو حتى أن يكتب لك قصة تحدد أنت موضوعها الأساسى وسيفعل هو ذلك، هل معنى ذلك أن عرش الكتابة والإبداع أصبح مهددا؟ الإجابة هى لا، برمجيات الذكاء الاصطناعى قد تكتب قصة قصيرة وبلغة سليمة تماما لكنها ستكون قصة بدون روح وبدون رسالة، الذكاء الاصطناعى قد يؤلف مقطوعة موسيقية لكنه لا يستطيع تلحين قصيدة شعرية لأن ذلك يتطلب انفعالا عاطفيا بمعانى القصيدة قبل البدء فى تلحينها وهذا بعيد المنال بالنسبة للذكاء الاصطناعى. العملية الإبداعية ستظل فى يد البشر وليس الآلة، لكن الذكاء الاصطناعى يمكنه المساعدة فى المجال الثقافى بطرق أخرى.
قوة برمجيات الذكاء الاصطناعى تنبع من قدرتها على تحليل عدد ضخم جدا من البيانات والوصول إلى نتائج مفيدة لقطاع النشر والمنتجات الثقافية، هناك معلومات ضخمة تنتظر التحليل على مواقع التفاعل الاجتماعى مثل (Goodreads) بخلاف الصفحات المهتمة بالكتب على فيسبوك ومواقع التواصل المختلفة والتفاعلات على المواقع الالكترونية لدور النشر والمعلومات المتوفرة عن بيع المنتجات الثقافية من كتب ومجلات وتسجيلات الفاعليات الثقافية داخل معارض الكتاب وخارجها، كل تلك المعلومات يمكن تحليلها ومعرفة معلومات ليس فقط عن طبيعة المحتوى الثقافى المفضل لكل فئة عمرية لكن أيضا كيف نتطور من ثقافة كل الفئات عن طريق اقتراح أنواع معينة من الكتب أو المجلات تصدرها دور النشر، وتستطيع برمجيات الذكاء الاصطناعى مساعدة الكاتب عن طريق تحليل النص وإعطاء بعض النصائح إلخ. إذا تكاملت القدرات البشرية مع قدرات الآلة سنصل إلى أفضل النتائج
همسة فى أذن المؤسسات الحكومية المعنية بالثقافة مثل الهيئة العامة للكتاب والمركز القومى للترجمة والهيئة العامة لقصور الثقافة والمؤسسات العريقة مثل دار المعارف ودار الهلال.. إلخ، ألم يأت الوقت لإتاحة كل المنتجات الثقافية إلكترونيا؟ ولا أقول مجانا لكن على الأقل إتاحتها «كلها» رقميا حتى يستفيد الجميع؟ المواقع الالكترونية للكثير من تلك المؤسسات بدائية جدا إن وجدت أصلا، ألم يحن الوقت لمعالجة ذلك؟
هذا المقال قدم بعض الأشتات المجتمعة التى تولدت من رحم زيارة معرض الكتاب على مدى عدة سنوات.