في إحدى الحالات النادرة جداً في التاريخ الإنساني يتوحد الجنس البشري كله في مواجهة فيروس مميت، خفي في تحركه، سريع في انتشاره. في هذا الموقف نرى ديموقراطية الخطر في أوضح صورها. لا أفضلية لدولة على أخرى أمام هذا الفيروس من عائلة الكورونا المقيتة.
الجميع يبحث عن حل وفي مثل هذا المناخ تنتشر الخرافات والآمال الكاذبة أو السيناريوهات الموغلة في التشاؤم أو التفاؤل. في هذا المناخ بالذات وحتى نخرج من تلك الأزمة يجب على العلم أن يتقدم الصفوف.
كنا قد تكلمنا عن أجهزة السوبر كمبيوتر في مقال سابق وسنتكلم عنها اليوم في سياق الحرب التي أعلنها الجنس البشري على فيروس الكوفيد-19. يحتاج العالم الآن إلى ثلاثة أشياء: علاج ضد مضاعفات الفيروس، ولقاح ضد الفيروس يقي الأصحاء منه، و أخيرا أن العلاج واللقاح يجب أن يأخذا في إعتبارهما أي تحور أو تطور قد يحدث للفيروس في المستقبل القريب. مايجعل المشكلة أصعب أننا نحتاج تلك الأشياء بسرعة جداً.
هنا يأتي دور السوبر كمبيوتر.
قبل أن نعرف دور السوبر كمبيوتر لنأخذ فكرة سريعة عن الطريق الذي تسلكه معامل الأبحاث وشركات الأدوية للوصول إلى لقاح ضد مرض ما.
في هذه المحنة العالميةنسمع أحيانا عن تجربة عقار معين وقد بدأت معامل الأبحاث الطبية في عدة دول في تجربة لقاحات على الإنسان مباشرة بدون التجربة على الحيوان إختصاراً للوقت. في 16 مارس الجاري تطوعت سيدة أمريكية من مدينة سياتل لتصبح أول سيدة فيأمريكا تخضع لاختبار لقاح معملي ضد هذا الفيروس. هذه هي المرحلة الأولى في طريق الوصول إلى لقاح. في تلك المرحلة يتم تجربة لقاح معين على عدد صغير من الناس غالباً ما بين عشرين لثمانين شخص ليرى العلماء تأثير هذا اللقاح على الأصحاء من حيث استجابة جهازهم المناعي له وإنتاجه أجسام مضادة للفيروس والآثار الجانبية للقاح. إذا نجحت المرحلة الأولي ننتقل إلى المرحلة الثانية وهي التجربة على عدد أكبر من الناس وبجرعات مختلفة حتى يتم تحديد الجرعة المناسبة للشخص. المرحلة الثالثة تشبه المرحلة الثانية لكن على عدد أكبر كثيراً بعدها تتم الموافقة على اللقاح ويصل للناس ويصاحبه مرحلة رابعة هي مراقبة أية أعراض جانبية قد تصيب أي شخص ولم تكتشفها المراحل الثلاثة السابقة. هذه المرحلة الرابعة تتم واللقاح متداول بالفعل.
لكن ماذا لو فشل هذا اللقاح في إحدى المراحل الثلاثة الأولى قبل أن يصل للناس؟ هل نكون قد أضعنا وقتاً ثميناً؟ الإجابة هي لا لأنه تتم تجربة أعداد كبيرة من اللقاحات على مستوى العالم في وقت واحد وقد يفشل بعضها وينجح البعض الآخر. لكن كيف يختار أو يصمم العلماء تلك اللقاحات؟ هنا يأتي دور السوبر كمبيوتر.
يمكن أن نتخيل الفيروس كعدو يهاجم الخلية بقذائف جينية تجعل الخلية تنتج نسخا من الفيروس وبهذا تحدث الإصابة ثم العدوى. عن طريق المحاكاة ببرمجيات شديدة التعقيد يحلل الكمبيوتر تفاعل الخلية والفيروس مع المركب الكيميائي للقاح معين، وقدرة هذا اللقاح على إيقاف القذيفة، وقدرته على جعل الجسم ينتج أجسام مضادة تفتك بالفيروس. هذه المحاكاة تستخدم برمجيات معقدة وكم كبير جداً من المعلومات (big data) لذلك تحتاج أجهزة كمبيوتر فائقة السرعة ... تحتاج السوبر كمبيوتر.
في ولاية تينيسي الأمريكية وفي معمل أوكريدج القومي (Oak Ridge National Lab) يسكن جهاز السوبر كمبيوتر الذي يحمل إسم "ساميت" (Summit) والذي صممته شركة "أي بي أم" بتمويل من وزارة الطاقة الأمريكية. هذا الجهاز هو حالياً الأسرع في العالم وسرعته تعادل سرعة حوالي مليون جهاز لابتوب من أسرع الأنواع مجتمعة. وظيفة هذا السوبر كمبيوتر هو: حل المشاكل التي تواجه العالم!
في السابق تمكن هذا الجهاز من تحديد تغيرات في الخلايا تسبق مرض الألزهايمر وحلل الجينات التي تسبب إدمان الأفيون وتمكن من التنبؤ ببعض العواصف القوية والأعاصير عن طريق المحاكاة الدقيقة، فهل يساعد على إكتشاف علاج للكورونا؟
عن طريق المحاكاة حلل جهاز ساميت ثمانية آلاف(8000) مركب كيميائي وكيفية تفاعلها مع الخلايا والفيروس، وقام بتحديد 77 مركب منها لها تأثير إيجابي في إيقاف خطر الفيروس وتم نشر هذا التحليل في ورقة علمية خلال الشهر الجاري. هل ترى الآن من أين تأتي الشركات والمعامل باللقاحات التي تجربها على الإنسان؟
ليس جهاز "ساميت" هو الوحيد الذي يعمل على إيجاد حلول للتغلب على الفيروس. في ولاية تكساس وبالتحديد في مركز الحوسبة المتقدمة بجامعة تكساس بمدينة أوستن يقبع سوبر كمبيوتر آخر إسمه "فرونتيرا" (Frontera) يقوم أيضاً باستخدام المحاكاة لدراسة هذا الفيروس ونقاط ضعفه وإكتشاف وسائل مبتكرة لمواجهته.
هناك قائمة طويلة من أجهزة السوبر كمبيوتر التي تعمل الآن على مستوى العالم لتساعد الجنس البشري في حربه ضد الكورونا. إذا تركنا الولايات المتحدة وعبرنا المحيط إلى أوروبا سنجد أجهزة سوبر كمبيوترفي معامل (GENCI) بفرنسا تعمل في الخطوط الأمامية في الحرب على الفيروس.
هناك مبادرة موجودة منذ زمن تسأل مستخدمي الكمبيوتر العاديين أن يتبرعوا ببعض الوقت من أجهزتهم للمجهودات العلمية. تقوم بتشغيل برنامج على جهازك وعندما لا تكون تعمل على جهازك كأن تكون نائماً مثلاً يبدأ البرنامج في عمل بعض الحسابات على جهازك تساعد في نظم المحاكاة وترسل النتائج إلى حاسب مركزي عن طريق الإنترنت لتحليلها. عادة لا يُقبل الكثير من الناس على تلك المبادرة لإحساسهم بأنها لا تمسهم شخصياً. لكن عندما بدأت تلك المبادرة في أن تطلب من الناس استخدام أجهزتهم لبعض الوقت في محاكاة للبحث عن علاج لفيروس الكورونا كان الإقبال أسطورياً لدرجة أن الأجهزة التي تبرع أصحابها من المستخدمين العاديين بوقتها أصبح مجموع سرعاتها أكبر من مجموع سرعة أسرع سبعة أجهزة سوبر كمبيوتر في العالم الآن مجتمعة بما فيهم جهاز "ساميت"!
في نفس الوقت تم إنشاء فريق عمل من شركة "أي بي أم" ومكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا التابع للبيت الأبيض ووزارة الطاقة الأمريكية ليتيح أكبر عدد ممكن من أجهزة السوبر كمبيوتر لأبحاث الكورونا. هذه الأجهزة ستأتي من شركات مثل أي بي أم وجوجل ومايكروسوف والمعامل القومية وبعض الجامعات.
العالم كله في جانب واحد هذه المرة وتتضافر جهود الأطباء والكيميائيين والصيادلة وعلماء الأحياء مع علماء تصميم الحاسبات (الذين يصنعون أجهزة السوبر كمبيوتر) وعلماء البرمجيات (الذين يكتبون برمجيات المحاكاة لتلك الأجهزة) لتحقيق النصر في تلك الحرب.
هذا ما نفعله على الأرض وما علينا بعد ذلك إلا إنتظار النتيجة من السماء.