عند نفس تلك النقطة أى فى الزقاق الذى ينتهى إلى مكتب صحيفة القبس فى لندن، وحيث هو طريق مسدود عند تلك النقطة جلسنا قبل اغتياله بيومين وربما عند نفس الأرض التى احتضنت جسده المتعب عند سقوطه بعد اختراق تلك الرصاصة.. كان كعادته ساخرًا من كل الحياة رغم حبه لها، ولكن ما اختلف فيه هذه المرة هو لمحة الحزن التى غرق فيها وجهه وكثير من الغضب فى حديثه.. كانت مكالمات التهديد والوعيد قد كثرت؛ تلك التى بدأت بالعتاب ثم ما لبثت ــ وهذا حسب ما أخبرنا فى تلك الليلة التى طالت فى محاولة منا أن نخفف عنه جهد فوق الجهد وتعب فوق التعب ــ أن تحولت إلى تهديد مباشر بأن يتوقف عن هذا وذاك وإلا!
***
ناجى ابن قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة، والذى اتسمت حياته ككل الفلسطينيين باللجوء والتنقل من مكان إلى آخر وانتهى فى العيش بمخيم عين الحلوة الذى كان يتمنى أن يدفن فيه، تلك الأمنية التى لم تتحقق أبدا ربما لتمزق الفلسطينيين بينهم وبين بعضهم البعض وربما لكثرة المؤامرات عليهم وكثيرًا منها من أكثر الأقربين..
لم يكن للجلسة مذاق سابقاتها مع ناجى، بقى هو متوتر وبقينا نحن أصدقائه شديدى القلق عليه.. ربما لأننا كنا ندرك كم حساس هو وكم تعب جسده من كثر الطعنات المتتالية والتهجير من عاصمة لأخرى ومن بلد لآخر ومن مدينة لمدينة..
***
حلت ذكرى اغتياله فتساقطت الصور وكأنها بالأمس؛ لأن ناجى بقى أكثر حياة من قاتليه وأكثر حضورا منهم بل وأكثر تأثيرا حتما.. بقى حنظلة شعار كل الثورات والانتفاضات العربية ورسمت صورته على حيطان السجون وجدران المدن الثائرة.. حنظلة المتعب أبى أن يموت بتلك الرصاصة الغادرة... حنظلة أيقونة الفقراء فى هذه الأرض الممتدة التى هى أرض ناجى الذى اعتبر أن كل بلد عربى هو وطن له، فما لبثت أن ضاقت كلها به ورحل فى آخر ترحيل له على طائرة إلى لندن لتصبح هى مدينته التى لم يعرف أبدا أن يتأقلم معها.. بقى هو وحنظلته يحنون لقرية الشجرة وللناصرة ولبيروت والكويت وكثير من المدن العربية التى لم تفتح حكوماتها مطاراتها له، ولكن فتحت شعوبها كل أبوابها لناجى الفنان الثائر الحقيقى، المبدع الذى لم يتكرر أبدا رغم أن الكثيرين من رسامى الكاريكاتير العرب حاولوا أن يكونوا هو!
لم يكن هو مهتم جدا بمدى الحديث عن عبقريته بقى على تواضعه وبساطته فى كل شيء حتى فى تفاصيل أيامه… ارتبط كثيرا بالمهمشين والفقراء وتفاعل معهم فى كل مكان.. كان أكثر معرفة بواقع العرب فى بلدانهم ومدنهم المشتتة ولذلك فكان قادرًا على أن يخاطيهم من حيث وجعهم وكثير من حسرتهم وآلامهم المزمنة.
رغم أن رسوماته كانت شديدة الحزن إلا أنه كان ساخرًا إلى حد القهقهة؛ لذلك فقد بدى هذا المزيج واضحا فى تعابيره المختلفة. هو الذى عاش كما كان يؤمن وكره بشدة كثرة انغماس الكثيرين فى فن الفصل بين القناعات والتعبير عنها والحياة اليومية للفنان مثله.. كم من كثيرين يتحدثون عن الفقراء إلا أنهم يبحثون عن أية فسحة للهروب إلى العوالم الأخرى التى يمارسون عليها النقد المميت.
ناجى الذى عرفناه كثيرا لم يكن يعرف المجاملة حتى مع أقرب الأقربين.. فى ذلك المساء قال لنهرب بعض الشيء بعيدا عن الكثيرين وكان ذاك متاحًا فى لندن أكثر من أية مدينة عربية ربما.. بدأ فى سلسلة من الانتقادات الحادة كعادته ولم يكتفى فيها بالسياسيين والكُتاب والمثقفين بل تعداها حتى إلى أقرب الأقربين.. هو هذا حتما ناجى الذى عرفناه بشدة وبقى فينا حتى اليوم لذا فتبدو ذكرى اغتياله مجرد محاولة للاحتفاء به لأنه هو من يليق به الاحتفاء بينهم كلهم جميعهم.. لم يكن هناك أى من يشبه ناجى، نادرا هو ببساطته كما حنظلته..
***
فى نهاية الليلة استطعنا ربما بكثير من الأحاديث المتعرجة أن نخرجه بعض الشيء من كآبة وغضب اللحظة رحلنا كلنا إلى مكان من هذه المدينة الممتدة عبر الأندر جراوند وتعاهدنا أن نلتقى فى الأسبوع القادم.. وما هى إلا أيام حتى أشاهد صورة ناجى على نفس الرصيف الذى وقفنا عنده مغطى بدمه الدافئ مثله.. ستمضى أيام وهو فى غرفته بالمستشفى لا يعرف ما يجرى حوله ربما أو ربما كان يسمع، لن نعرف أبدا؛ رغم أننا أصدقائه الذين ودعوه فى تلك الليلة وكان الوداع الأخير، تصورنا أن عليه أن يعرف أنه يترك خلفه كثيرًا من الحب والشوق له.. هناك لحظات فى الحياة تتوق لعودة شخص مثل ناجى لتحدثه قليلا ثم يعود إلى حيث –ربماــ الحياة أقل زيفا وقبحا… وداع ناجى مرة أخرى وداع.