أنت أصغر منى ولكنى أثمِّن عقلك واتزانك غاليا وأنت تعرف ذلك. أحاول منذ أيام الاختلاء بك لأطلعك على أمر يخصنى ويشغلنى. بدأ الأمر بفكرة خطرت على بالى تطورت كعادة كل الأفكار التى يسوقها حظها ناحيتى. تعرفنى جيدا وتعرف عنى أننى لا أدع فكرة تقترب منى إلا واقتنصتها وقلبتها قبل أن ألقى بها بعيدا أو أتبناها. اخترت هذا المقهى لأنه لا أحد من الذين يعملون معنا يأتى صوبه، ولأن من يقصده هم فقط القادرون، وتعرف أننى أرتاح لهذا النوع من الناس. أنت تنتقد أحيانا بعض تصرفاتى وانحيازاتى وتتسامح فى النهاية عندما أفلح أنا والظروف فى إقناعك. أعتقد أننى أفلحت فى إقناعك مرات أكثر من المرات التى أقنعتنى فيها. ربما فارق السن بيننا أو لعله فارق التجارب. لكلامى هذا مغزى ستتعرف عليه بعد دقائق. أريدك اليوم أكثر من أى يوم مضى، أريد منك أن تقنعنى، بل أدعوك لتبذل جهدا إضافيا فى إقناعى بأن انحيازاتى التى كنت تنتقدها ليست على إطلاقها شرًا لا يأتيه الخير من أى جانب أو خطأً جسيمًا لا يستقيم مع مرور الوقت.
***
كنت متدربا فى مكتبها. لم أكن أنهيت دراستى الجامعية حين عرضت أن أنتظم كمتدرب فى نوع النشاط الذى كانت تقوده وكنت أتردد عليه متطوعا ومستزيدا علما وخبرة. قضيت فى التدريب أسابيع انتقلت على إثرها إلى سلك صغار العاملين. تعلمت الكثير فوالحق لم تبخل بمعلومة أو تجربة أو نصيحة. من حسن حظى كانت من نوع منفتح تكاد لولا فارق السن بيننا تحكى لى كل شيء، وأعنى فعلا كل شىء. لعلها احتفظت بأشياء تعلم أننى لن أفيدها فيها لو سمعتها ولن أستفيد. أعترف بأننى على امتداد السنوات التى عملنا فيها معا لم أعرف، ولم أحاول أن أعرف، كم يدخل لها شهريا. هى كانت تعرف كم يدخل لى لأنها هى التى قدرت ما أستحق. إلا أننى كنت واثقا أنها تعيش حياة رغدة، فهى ترتدى أفخر الثياب. بل وسمعت ذات مرة زميلتين يطنبان فى مدح ذوقها فى الملبس، وبخاصة جرأتها فى تحديد مستوى ما فوق الركبة وتأكيد ما يجب أن يلفت النظر من جسد بديع القسمات.
***
حديثى معك اليوم يتعلق بشاب لا شك أنك رأيته فى مكتبنا ضيفا تردد علينا كثيرا فى الأيام الأخيرة. ساعدناه فى إعداد أوراقه للسفر إلى الخارج لاستكمال دراساته العليا. طبعا تريد أن تعرف لماذا منحته اهتماما يتجاوز اهتمامنا العادى بعملائنا. هو شخص لا يمكن أن يثير بهيئته وشخصيته اهتمام أى شخص آخر. ولكنه شخص يدفعك تفوقه وتميزه الأكاديمى إلى أن تعود لتنظر إليه مرة ثانية وربما ثالثة ورابعة. تريد أن تتأكد من أن هذا الذى أمامك هو نفسه الذى حقق هذا التميز. تسأله فيجيبك فى كلمتين أو بطأطأة الرأس. سألت نفسى أكثر من مرة كيف لإنسان لا ينام الليل ويبقى حتى الصباح يدرس وهو لم يتناول من الطعام إلا ما قل. لا أحد موجود فى بيته اهتم بإعداد كوب الشاى أو اطمأن عليه خلال السهر أو شجعه على مقاومة النوم أو مسح على جبهته بيد حنون. كنت أنا الذى استدعيته مرة ليوقع على ورقة واحتفظت بالأخرى لاستدعيه من أجلها بعد يوم أو يومين. مخزون الحنان كاد يفضحنى. نعم، كان حنانا لا شىء آخر. أعرف كيف تفكر فأنت صاحب زعم أن الحب يأتى أحيانا متخفيا فى أشكال ومشاعر مختلفة، وأنه لا يسمح لتحيزات طبقية أن تقف فى طريقه. أؤكد لك هو الحنان لا أكثر ولا أقل. رباه أبوه فلا أم أرضعته ولا امرأة حملته طفلا ولا امرأة احتضنته شابا.. هو الآن يستعد للسفر إلى بلاد «الخواجات» لا تجربة تسنده ولا لغة أجنبية يستطيع أن يفتتح بها حديثا مع شرطى مرور أو نادلة فى مطعم. سألته إن كان أحد سيرافقه فى السفر ورحلة الدراسة. قال إن أباه يريد منه أن يأخذ معه ابنة عمه، ابنة الخامسة عشرة.
سكتت قليلا لتنظر طويلا فى عينى وهى تلقى بكلمات اختارتها بعناية. قالت: «أراك سبقتنى وكونت بالفعل رأيا. نعم فكرت فيما كنت تفكر فيه. واجبنا أن نبحث له عن فتاة من عمره خريجة جامعة أجنبية تقبل بأن تعيش فى الخارج زوجة لمبعوث. لم أتردد. سألته وعرضت عليه أسماء عدد من المتدربات فى مكتبنا وناورت حتى التقى ببعضهن واستمع إليهن. كررنا التجربة دون جدوى. يبدو أنه وضع معيارا أو عددا من المعايير شديدة التعقيد. لا فتاة بين كل من قابل تستطيع أن تتحمل مسئولية رجل لا يعرف تماما ما يحتاجه فى المرأة. لا يعرف ما يجب أو يجوز أن يفعله بها ولها. مشكلته أشد تعقيدا. ليس فقط أنه لا يعرف عن النساء شيئا ولكنه أيضا تحت ضغط ليأخذ إحداهن معه فى بلاد غربة وفى ظروف صعبة.
توقفت عن الكلام لترشف من فنجانها رشفة قهوة باردة وأشعلت سيجارة. أدركت لحظتها أنها تتأهب لإعلان الحقيقة. لم أظن للحظة واحدة أنها واعدتنى لنبحث معا عن فتاة تصلح زوجة لشاب نابغة. وبالفعل وجدتها تسحب نفسا آخر من السيجارة قبل أن تطفئها بعزم لا أخطئه. قالت: «اقترب اليوم المحدد للرحيل، ولم نحل للشاب مشكلته. أكاد أكون واثقة من أنه لن يفلح فى دراسته لو سافر بدون زوجة. سنفقد بفشله عالما ومعجزة فى مجال تخصصه. قضيت ليلة أمس أفكر فى حل وأظن أننى عثرت عليه. وها أنا أعرضه عليك لتزيدنى به اقتناعا قبل أن أشرع فى تنفيذه. الحل يا صديقى هو أن أتزوجه أنا».
***
اشتغلت كما تشتغل زوجة مبعوث. كلهن عملن ليل نهار، عملن فى ساعات القيظ وعملن فى صقيع الشتاء. اشتغلن فى وظائف لا تليق بهن كنساء أو صاحبات خبرة وحصلن على أقل القليل. قليلات هن اللائى تمتعن بثمرة هذه الحياة الشاقة والتضحيات التى قدمنها قرابين لنجاح أزواجهن. صديقتى أفلح زوجها فلاحا تجاوز كل التوقعات. حقق ثروة طائلة وسمعة علمية واجتماعية فائقة. وفى يوم مشهود أفاقت صاحبتنا من زحمة تضحياتها على صوت مساعدة زوجها العالم الكبير والأستاذ المبجل تخبرها أنه أهداها حجرا قيمته ربع مليون دولار بينما كان يهدى عشيقات أخريات بما قيمته أعلى.
جلسنا على شاطئ المحيط فى قصرها المنيف تحكى لى كيف استعادت حقوقها كاملة. نعم كاملة. وظفت سحرها وعزمها لكشف كل مغامراته. شكلت من عشيقاته فريق تحقق وجمع معلومات. أخذت المعلومات وشهادات العشيقات ولجأت للقضاء. قضت المحاكم لها وأولادها وعشيقاته بمعظم ثروته وتولت بنفسها ومع نسائه المخدوعات القضاء على سمعته إعلاميا ومهنيا.
«خدعنى وسرق شبابى. أقسمت أن أرجعه كما كان. كان لا شيء، وبفضلى صار شيئا، وبفضلى أيضا عاد لا شىء».