نشر أحد المدونين الأمريكيين صورة من الأرشيف لفتاة برازيلية عمرها 22 عاما تقف فى قفص الاتهام فى محكمة عسكرية انعقدت فى مدينة ريو جانيرو عام 1970. بدت الفتاة فى الصورة رائعة الجمال وصاحبة قوام رشيق وشعر مجنون كالذى أحبه نزار قبانى. وعلى المنصة جلس قضاة يرتدون الزى العسكرى، وإلى يمينهم وقف المدعى العام وإلى يسارهم جلس محامى الدفاع وكلاهما يرتديان الزى العسكرى.
لا تخفى الصورة العتيقة حال التناقض الواضح بين المتهمة الرقيقة بلباسها الناعم وتقاطيعها الهادئة من ناحية وقضائها الغلاظ الشكل والحجم والزى. لسانها سلاحها الذى لم يتوقف عن انتقاد سلوك الحكام العسكريين الذين يذيقون البلاد مرارة الظلم والقمع. استمرت على امتداد ساعات تكيل لهم الاتهامات بسوء معاملة العباد ونشر الفساد وإهدار الموارد، بينما جلس القضاة يستمعون وأعينهم تتفادى كاميرات التصوير. قالت.. وقالت. قالت تعذبوننى سرا فى الأقبية والغرف المغلقة بعيدا عن عيون المراقبين والمصورين، وها أنا أعذبكم علانية فى قاعة مفتوحة وأمام أعين المراقبين ومكبرات الصوت وكاميرات التليفزيون والصحافة.
الصورة المدهشة لفتاة اسمها ديلما روسيف، الطالبة الجامعية المتهمة بالانتماء إلى تنظيم سياسى سرى يسعى لإسقاط حكومة مستبدة، اشتهرت فى ذلك الوقت بممارسة أسوأ عمليات التعذيب ضد أفراد من المعارضة السياسية، وبخاصة ضد شباب الجامعات والنقابات، وذاعت شهرتها هذه فى جميع أنحاء أمريكا اللاتينية، بعد أن تأكد أن بعض الضباط المشاركين فى الحكم وإدارة شئون الدولة وقادة عمليات تعذيب المواطنين، رجالا ونساء، تلقوا تدريبهم على هذه الأعمال فى مدرسة عسكرية خاصة فى ولاية جورجيا الأمريكية، وهى المدرسة التى تخرج فيها الآلاف من العسكريين الذين عادوا إلى بلادهم بعد تخرجهم ليسيطروا على الحياة السياسية فى دول القارة اللاتينية. تصادف أن أحد جيرانى فى البناية التى سكنت فيها لبعض الوقت فى بيونس أيرس بالأرجنتين كان من خريجى هذه المدرسة. والمعروف أن سيطرة العسكريين على الحكم استمرت إلى عقد الثمانينيات وتوقفت بعد نشوب الثورات التى أطاحت بهم جميعا.
●●●
هذه الفتاة هى الآن رئيسة جمهورية البرازيل، السيدة التى رافقت مسيرة النقابى الشهير لولا دى سيلفا فى شوارع ومصانع البرازيل حتى إن تولى فى انتخابات ديمقراطية منصب رئاسة الجمهورية. وقد قضى فى المنصب مدتين رفض تجديدهما، ورشح خليفة له من بعده السيدة ديلما روسيف وكانت تتولى حقيبة الاقتصاد فى حكومته.
فاجأتنى السيدة روسيف كما سبق أن فاجأتنى السيدة باتشيلبت رئيسة جمهورية شيلى، وكلتاهما ناضلتا من أجل تحرير بلادهما من حكم الاستبداد، وكلتاهما دخلتا السجن وكلتاهما مورس ضدهما التعذيب. أقول فاجأتنى هذه السيدة وتلك، عندما أدارتا شئون بلديهما من خلال أعلى منصب فيهما بحكمة بالغة. السيدة باتشيلت استخدمت كل إمكانات الحزم والحسم المتوافرة لديها كزعيمة سياسية حازت ثقة الشعب وكل إمكانات ذكاء المرأة ونعومتها وكل خبرات العمل السياسى السرى، لتقنع المؤسسة العسكرية بالانسحاب تدريجيا من الحياة السياسية فى شيلى بعد حكم عسكرى دام سنوات طويلة، ولتقنعهم أيضا بالقبول المتدرج بمبدأ الخضوع للسلطة المدنية المنتخبة. أما السيدة ديلما روسيف، فقد استطاعت بعد أقل من عامين على توليها الرئاسة أن تترجم القوة البرازيلية الصاعدة إلى قوة سياسية، حين كلفت مبعوثيها فى مجلس الأمن بالوقوف بحدة وصلابة ضد محاولة الولايات المتحدة، ودول الغرب عموما، فرض عقوبات على نظام بشار الأسد فى سوريا.
المناضلة التى قاست وتعذبت على أيدى حكومة مستبدة ترفض تكرار تجربة التدخل التى قامت بها قوات حلف الأطلسى فى ليبيا، طبقا للقرار رقم 1973 الصادر عن مجلس الأمن، بهدف حماية المدنيين. تقول روسيف وعن حق، لقد تجاوزت قوات الحلف الأطلسى الترخيص الممنوح لها من الأمم المتحدة وشنت حربا ضد نظام حكم وقتلت المدنيين بدلا من أن تقوم بواجب حمايتهم من قوات القذافى. وفى مذكرة وزعتها على أعضاء مجلس الأمن، اعتبرت ديلما أن وراء التدخل الغربى فى ليبيا أهداف تخدم مصالح لدول الغرب، وأن ما حدث فى ليبيا يجب ألا يتكرر فى سوريا أو غيرها. حجة الغرب للتدخل الإنسانى حق ولكن ما يراد من وراء التدخل بعضه، إن لم يكن أغلبه، باطلا.
يرد الأمريكيون بأن التدخل فى ليبيا أنقذ عشرات الآلاف من المدنيين كان يمكن أن يقتلهم القذافى وقواته، بل إن التجربة بأسرها تبدو أفضل كثيرا من تجربة «التدخل الإنسانى» من جانب الغرب فى أفغانستان والعراق، تجربة حربية هى الأطول والأكثر تكلفة فى تاريخ حروب أمريكا، على عكس تجربة ليبيا التى لم تمتد الأعمال العسكرية فيها لأكثر من أسابيع معدودة.
●●●
تصر ديلما وكثيرون فى أمريكا اللاتينية ودول أخرى فى العالم النامى وروسيا والصين على أنه إذا لم توضع قيود وقواعد تضبط عمليات التدخل الدولى لأغراض إنسانية، سيبقى هدف الدول الغربية محل شكوك، وأهمها الرغبة فى العودة إلى الأساليب الإمبريالية فى التعامل مع دول الجنوب، وقد جاء الدليل على لسان المسئول الفرنسى الذى طالب فور توقف الأعمال العسكرية وإعلان انتهاء مهمة حلف الأطلسى، بإبرام عقود نفطية مع الحكومة الانتقالية ثمنا للخدمات التى قدمتها فرنسا لليبيا خلال الحرب.
●●●
ديلما الرئيسة، فى رأيى، لم تخن مبادئ نضالها، فهى مع الحرية والكرامة والعدالة ومع حماية أرواح المدنيين تماما كما كانت تفعل وهى تشتغل بالثورة ضد استبداد حكام البرازيل، وهى الآن ضد استخدام الدول الغربية لمبدأ التدخل الإنسانى كغطاء لإسقاط حكومات معينة أو للعودة إلى الهيمنة والسيطرة على ثروات وأقدار شعوب تعبت من طول الخضوع لاستبداد حكامها وخارت قواها تحت ضغط الظلم الاجتماعى وانتفضت لتتخلص من أدوات القهر السياسى.. ولتعيش حرة.