اقتصاد جديد وإلا فالطوفان - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:46 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقتصاد جديد وإلا فالطوفان

نشر فى : الخميس 29 يناير 2015 - 8:10 ص | آخر تحديث : الخميس 29 يناير 2015 - 8:10 ص

منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى وملتقى دافوس الاقتصادى يجمع سنويا حوالى ألفين وخمسمائة من رجالات الاقتصاد والمال والسياسة والإعلام ليستمعوا لخطب ساسة من أمثال رئيس الوزراء البريطانى تونى بلير الذى كان يُلقى المواعظ الأخلاقية بينما كانت يداه ملطّختين بدماء أطفال العراق، ومن أمثال كونداليزا رايس الأمريكية التى كانت تدافع إلى حد الجنون عن سياسات بوش الابن الخرقاء فى مهاجمة الآخرين واحتلال بلدانهم وتجويع أطفالهم باسم حملات مكافحة الإرهاب الصليبية، ومن أمثال قادة العالم الثالث الفاسدين الناهبين لثروات أوطانهم.

أو ليستمعوا لرؤساء بنوك وشركات عابرة للقارات من المتخمين بالمال وعيش الرفاهية والبطر والمدافعين عن نظام رأسمالى عولمى يمارس الفحش فى استقطاب الثروات للأغنياء فيزدادوا غنىّ وفى نهب الفقراء ليزدادوا فقرا.

ملتقى دافوس يريد أن يطمئن ضحايا الامتيازات بأن الجلاّدين معنيُّون بآهات وأسقام ضحاياهم، بدليل أنهم يجتمعون سنويا لبحث كيفية الخروج من الأزمات المالية بشرط ألا تمسّ أسس الليبرالية الجديدة المتوحّشة التى لا تعترف إلاُ بمنطق السّوق، ولا غير السّوق. وبدليل مناداتهم بحماية البيئة شرط ألا يؤدّى ذلك إلى المساس بأسس هيمنة الشركات العالمية الكبرى على ثروات بلدان العالم الثالث الفقير. وبدليل أنهم يبحثون قضايا اللامساواة والبطالة بين الشباب والنساء ومرض الإيبولا... إلخ من قائمة طويلة لإحن هذا العالم التى تتفجّر كالبراكين سنة بعد سنة.

•••

كل تلك الخطابات والمناقشات والصّفقات والبيانات، التى تشغل العالم لمدة ثلاثة أيام من كل عام، والأمور تزداد سوءا. فلا يزال بليون ونصف من البشر لا يزيد دخل الفرد منهم على دولار وربع الدولار فى اليوم، ولايزال مائة وثلاثون مليونا من الأطفال يضطرهم جوع أهليهم العمل فى المزارع والمصانع والحرمان من التعليم. ولايزال واحد فى المائة من سكان العالم يملكون خمسين فى المائة من ثروات هذا العالم، ولا تزال البيئة تتدهور ولا تزال الدول تزداد غوصا فى المديونيات التى فى النهاية لا يحمل وزرها إلا الفقراء، ولا يزال العالم يخرج من أزمة مالية بعد جهد جهيد ليدخل فى أزمة جديدة بسبب انقلاب اقتصاده، بتوجيهات المدارس الاقتصادية النيوليبرالية فى عواصم الغرب الكبرى، من اقتصاد انتاجى إلى اقتصاد انتهازى يعتمد على طباعة التريليونات من الأوراق المالية من قبل البنوك المركزية، ويعتمد على أنظمة إقراض جائرة لا تعرف الانصباط ولا الرحمة، ويعتمد على مغامرات مضاربات لا دخل لها بالواقع.

من هنا لا يستطيع الإنسان إلا أن يصل إلى نتيجة مفادها أن ملتقى دافوس الاقتصادى، الذى أنهى اجتماعه السنوى منذ بضعة أيام، ليس إلا مؤسسسة، تنضُم إلى قائمة طويلة من المؤسسات المشابهة لها، معنيُة فى جوهرها بإيجاد مخارج تنقذ الذين يصرُون على توريط هذا العالم فى أزمات اقتصادية وبيئية وسياسية بسبب تمسُّكهم بالإبقاء على أفكار وممارسات اقتصادية مليئة بالثّغرات والخداع، تدعمها آلة إعلامية متواطئة كاذبة، حتى ولو كان من بعد ذلك الطوفان.

•••

ما يحتاجه العالم الآن هو فكر اقتصادى جديد يعتمد على ممارسات وقيم إنسانية عادلة تردع الفاسدين الأنانيين الطمّاعين، وليس فقط، كما تدعو إليه الدوائر الرأسمالية العولمية المتحكّمة، إلى مزيد من الشفافية والأنظمة الترقيعيّة المنتقاة بإتقان ٌ لإطالة أمد عمر نوع من الرأسمالية لا تمتُ بأية صلة حتى بالأسس التى قامت عليها الرأسمالية الكلاسيكية.

إنه فكر اقتصادى جديد لا يشعر بالحرج أو الخجل من تبنى بعض ما نادى به الفكر الاشتراكى فى الماضى، من مثل ضرورة تدخُّل سلطات الدولة من خلال نوع معقول من التخطيط المركزى، ومن خلال أنظمة مانعة للشطط والمغامرات المعتوهة، ومن مثل ضرورة امتلاك الدولة لمؤسسات اقتصادية مفصلية لا تترك للمال الخاص لكى يمتلكها ويتحكّم من خلالها برقاب العباد، ومن مثل التدخّل لحماية المؤسسات والأسواق المحليّة لحماية صغار المستثمرين من هيمنة المؤسسات العولمية الكبيرة، ومن مثل بناء دولة الحماية المجتمعية من خلال أنظمة التعليم العام والخدمات الصحية العامة ودعم النّقابات ومؤازرة الفقراء والمهمّشين والإصرار على أنظمة تقاعد عادلة وعدم القبول بالمقولة الرأسمالية من أن البطالة هى شرُ لابدّ منه.

وفى جميع الأحوال فإن هكذا فكر وممارسة لا يمكن أن يستقرَّ إلا فى أنظمة ديمقراطية عادلة، حيث للمجتمع المدنى صوت قوى وللمواطن حرية ونشاط حيوى، حيث لا مكان للامتيازات تحت أى مسمّى كان، حيث لا سلطة تعلو فوق سلطة القانون العادل الذى يضعه الناس لأنفسهم.

•••

النضال من أجل إيقاف الجنون الرأسمالى النيوليبرالى العولمى الجائر من خلال القبول بضوابط اشتراكية إنسانية متوازنة ومعقولة، لإيجاد نظام اقتصادى إنسانى عادل، يجب أن تكون أولوية الأولويات لقوى المجتمعات المدنية فى العالم كلُه، وإلا فإن الطوفان قادم بسبب حساسيات طفولية تجاه كل الفكر الاشتراكى هى لا معنى لها، بل ومضرة إلى أبعد الحدود، وستغرق الجميع.

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات