تستقبل القاهرة اعتبارا من اليوم حدثا فنيا فريدا يتمثل فى المعرض الذى تنظمه قاعة مشربية بوسط البلد للأعمال الجديدة التى أنجزها الفنان التشكيلى السورى الكبير يوسف عبدلكى.
ومنذ سنوات طويلة ربط عبدلكى تجربته الفنية بالمشهد التشكيلى فى مصر، إذ كانت هى محطته الأولى بعد عروضه المبكرة فى دمشق. واحتضن أتيليه القاهرة أوائل الثمانينيات معرضه الأول، وبعد سنوات عرض فى مجمع الفنون بالزمالك مجموعة كبيرة من أعماله التى كرست اسمه عربيا، حيث كان المجمع فى ذروة تألقه بفضل الالتزام بمعايير عرض استثنائية.
وعبر مسيرته الحافلة التى شملت إقامة طويلة فى باريس، ارتبط الفنان بصداقات طويلة وممتدة مع رموز من الحركة التشكيلية المصرية، لعل أبرزهم الفنان الراحل حسن سليمان، ولم يكن غريبا والحال هكذا أن يكون هو أول فائز بجائزة النيل التى قررت مصر منحها قبل أربع سنوات ضمن جوائز الدولة التى تقدم للمبدعين المصريين سنويا.
وعبدلكى أحد أبرز الفنانين العرب فى مجال الحفر وهو كذلك مصور تشكيلى بارع، له بصمة متميزة لا يمكن تفاديها كما لا يمكن للمتذوق المحترف أن يغفل عن تقنياته أو عن المفردات البصرية التى ترصع لوحاته وصارت تدل عليه.
يعود عبدلكى للعرض فى القاهرة بعد غياب طويل عن المشهد المصرى، ليقدم معرضا جديدا لرسوم أنجزها بين عامى ٢٠١٥ و٢٠١٩، وطبع منها عشرة نسخ مرقمة ومؤرخة والكثير منها ــ كما يشير ملصق المعرض ــ مستلهم من رباعيات شاعرنا العظيم صلاح جاهين، بل إن معرضه كله هو «تحية خالصة لجاهين، إذ يمنح كل مجموعة مدخلا مستمدا من الرباعيات. وهى مسألة مثيرة تجدد السؤال حول الكيفية التى جعلت «الرباعيات» تحتفظ بهذه القدرة الخلاقة على حفز المخيلة الإبداعية وهى فى ذلك شأن كل النصوص الإبداعية الخالدة.
يتضمن المعرض خمس تحيات لمجموعة من رموز الفن، أولها مهداة للرائد المصرى محمود مختار (١٨٩١ ــ ١٩٣٤)، وهى رباعية: «خوض معركتها»، والثانية للمعلم اليابانى هوكوساى (١٧٦٠ ــ ١٨٤٩)، وهى رباعية: «الموج تلول»، وللرائد المصرى محمود سعيد (١٨٩٧ ــ ١٩٦٤)، أهدى رباعية «اوقات أفوق»، وأهدى فنان الدادائية الفرنسى مارسيل دوشامب (١٨٨٦ ــ ١٩٦٨)، رباعية: «وسط الحطام»، ومنح عبدلكى المجموعة الأخيرة للملحن المصرى الشيخ إمام عيسى.
تحمل هذه الاهداءات رسائل، تلخص على نحو ما الخيارات الفنية للفنان، فأنت لا تنظر لأعمال محمود مختار ومحمود سعيد دون أن يتعزز انطباعك بقوة عملهما الفنى وبلوغه أقصى درجات الإتقان على نحو يثير لديك تساؤلات عن خصوبة معانى الهوية وهى هنا تعتنى بالتأصيل والنظر فى الجذور، وفى نفس الوقت لا تهمل الموهبة وتسعى إلى صقلها بالتواصل مع هويات أخرى مجاورة دون أى شعور بالدونية أو النقصان، لأنها ليست هويات بديلة تقوم على انتزاع الأصل أو التخلص منه.
تقرأ لوحات عبدلكى الجديدة كصيغة من صيغ الحوار مع تجارب ملهمة أو مغامرة، أما اختيار الشيخ إمام عيسى صاحب المنجز الهائل فى الأغنية السياسية فهو خيار كاشف عن إصرار الفنان على تأكيد التزامه السياسى الذى وسم تجربته منذ أن كان رساما للكاريكاتير أو مصمما للملصقات السياسية وهى التجارب التى بلغ فيها أفقا متميزا تحررت فيه من دوجما المباشرة وتحولت معه إلى أيقونات بصرية دالة تؤرخ لأحداث هامة فى الذاكرة السورية المثقوبة الآن بجراح كثير.
هذا هو يوسف الذى عرفته ورأيته لأول مرة وسط حفاوة السوريين الذين توافدوا بالمئات لحضور افتتاح أول معرض أقامه فى بلاده عام 2005 عقب عودته بعد منفى طويل وكان وجوده هو الحدث الثقافى والسياسى الأبرز فى دمشق خلال تلك الفترة، التى كانت تتأهب فيها لخيار آخر غير خيار الدم أو المحاصصة الطائفية.
لا يكف عبدلكى فى لوحاته عن السؤال، بل إن غياب الألوان عن لوحاته بحد ذاته يبقى أحد الأسئلة التى تثير المتلقى، إذ كيف تستطيع لوحات مرسومة بألوان رمادية تبدو محايدة أن تحمل كل هذه السكاكين أو الايادى المبتورة أو الوجوه الشبحية وعلب السردين المنزوعة دون أن تفقد قدرتها على المناجاة، فهى تشى بصمتها لكنها تواصل الحفر فى الذات، هل لأن فيها الحيوية التى تواجه أى موت أم أنها رغبة الفنان فى ملازمة فتنة السؤال، دون التخلى عن حرية الفنان.