المهزلة الأرضية فى الحرب على إيران - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الإثنين 30 يونيو 2025 3:16 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

المهزلة الأرضية فى الحرب على إيران

نشر فى : الأحد 29 يونيو 2025 - 9:50 م | آخر تحديث : الأحد 29 يونيو 2025 - 9:50 م

عنوان هذا المقال مستوحى من مسرحية شهيرة لأديب مصر الراحل دكتور يوسف إدريس سعدت بمشاهدتها عندما عرضت لأول مرة فى القاهرة فى سنة ١٩٦٦، وتدور المسرحية باختصار حول طبيب نفسى يعالج ثلاثة أشقاء من أسرة واحدة تنضم إليهم والدتهم، ويحكى كل منهم قصة يعجز الطبيب المعالج عن فهمها، وينتهى به الأمر أن يدخل هو نفسه مستشفى الأمراض العقلية ليأسه من فهم القصص المتضاربة والمتناقضة لأفراد هذه الأسرة. لا شك أن الكثيرين قد شعروا بالعجز عن فهم حقيقة التطورات التى أدت بالولايات المتحدة للتوقف عن مساعيها للوصول إلى حل دبلوماسى لقضية البرنامج النووى الإيرانى، ثم مسايرتها لرئيس الوزراء الإسرائيلى بل والمشاركة معه فى شن الحرب على إيران، تلك الحرب التى انتهت بالتوافق على وقف إطلاق النار، بل وعلى السماح لإيران بمهاجمة قاعدة عسكرية أمريكية هى العديد فى قطر مع الإبلاغ المسبق للولايات المتحدة وقطر على هذه النية، مما دعا الكثيرين فى مصر إلى الاعتقاد بأن كل أحداث هذه الحرب هى مسرحية هزلية، بل ومن وجهة نظر بعضهم هى أيضا مسرحية فاشلة لأنهم لا يصدقون ما يقوله أطرافها عنها.
ليست هذه وجهة نظر كاتب هذا المقال، فهى فى رأيه تطور خطير يكشف عن أبعاد النظام العالمى فى الوقت الحاضر، والخطوط العريضة فى النظام الإقليمى فى الشرق الأوسط، ولكنها فى نفس الوقت مهزلة تنتمى لما يسميه المتخصصون فى العلوم السياسية بعالم الما بعديات، والمقصود هنا كما سيفصل المقال ثلاثة جوانب فى هذا العالم هى ما بعد الحقيقة، وما بعد حكم القانون، وأخيرا ما بعد الرشادة فى الشرق الأوسط.
عالم ما بعد الحقيقة
ولنبدأ بالعدوان الصارخ على الحقائق من جانب أطراف هذه الحرب، وخصوصا الولايات المتحدة وإسرائيل ووكالة الأمم المتحدة للطاقة الذرية. تدعى الحكومة الأمريكية أنها تسعى للإنهاء الكامل لأى برنامج نووى إيرانى، وأى قدرة لإيران على تخصيب اليورانيوم بحجة أن إيران سوف تسعى لتجاوز مستوى التخصيب الكافى لاستخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية، وتتجاهل أنها هى التى بدأت بتشجيع إيران فى عهد الشاة على أن يكون لها برنامجها النووى، والذى كان من الممكن أن يمكن إيران من إنتاج قنبلة نووية، ولكن الذى أوقف هذا البرنامج فى السنوات الأولى للثورة الإسلامية فى إيران هو آية الله الخمينى قائد هذه الثورة والذى اعتبر أن السلاح النووى يخالف تعاليم الإسلام لأنه يمكن أن يصيب أشخاصا أبرياء. ويتصل بهذا التنكر لدور الولايات المتحدة فى بداية البرنامج النووى الإيرانى أنه لم يثبت بالفعل أن إيران كانت فى طريقها إنتاج قنبلة نووية. بل هذا ما شهدت به تولسى جابارد مديرة مكتب الاستخبارات الوطنية فى الولايات المتحدة، وهو الجهاز المسئول عن تجميع كل معلومات أجهزة المخابرات الأمريكية وتقديمها للرئيس، وقد اتهمها الرئيس الأمريكى بأنها لا تفهم شيئا، وهو ما يثبت مرة أخرى أننا نعيش فى عالم ما بعد الحقيقة، عندما لا يعترف رئيس الدولة بصحة المعلومات التى تقدمها له أجهزة معلوماته، بل وذهبت إلى ذلك وكالة الأمم المتحدة للطاقة الذرية، بل وحتى إسرائيل التى وصفت حربها الأخيرة ضد إيران بأنها حرب استباقية، أى تستبق تطوير إيران لسلاح نووى والعزم على استخدامه. والمثل الأخير هنا على عالم ما بعد الحقيقة هو نفس التقرير الذى قدمته وكالة الأمم المتحدة للطاقة الذرية عن انتهاكات إيران لالتزاماتها بموجب اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، فهو لا يتعلق بانتهاكات جديدة، بل يتعلق بانتهاكات قديمة تعود إلى ما قبل ٢٠٠٣، وهو بالمناسبة التقرير الذى اعتمدت عليه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل ومعهما الدول الغربية الثلاث أى بريطانيا وفرنسا وألمانيا فى اتهام إيران فى مجلس الوكالة وأمام مجلس أمن الأمم المتحدة بأنها خرجت على التزاماتها بموجب هذه المعاهدة.
ما بعد حكم القانون
المظهر الثانى على أننا نعيش فى عالم المابعديات، هو خروج الأطراف الغربية جميعها، أى إسرائيل والولايات المتحدة والدول الغربية الثلاث التى وقعت الاتفاق النووى مع إيران فى ٢٠١٥ على حكم القانون. فحتى لو افترضنا أن الحكومة الإيرانية قد خرجت عن التزاماتها تجاه الوكالة الدولية، فمن هو المسئول عن وقف هذا الانتهاك؟ بكل تأكيد ليست إسرائيل فلم يولها أحد مسئولية احترام حكم القانون أى قانون لا فى الشرق الأوسط ولا خارجه، كما لم ينصب أحد الولايات المتحدة للقيام بهذه المهمة. والذى يدعو للسخرية أنه لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة تشتهران بالدفاع عن حكم القانون.
بل إسرائيل متهمة بممارسة الإبادة الجماعية للفلسطينيين فى غزة، وتساندها الحكومة الأمريكية فى ذلك، بل إن الاتهامات بانتهاك حكم القانون محليا ودوليا عالقة برقاب كل من رئيس الوزراء الإسرائيلى والرئيس الأمريكى. أضيفوا إلى ذلك أن الحكومة الإيرانية المتهمة بانتهاك اتفاقية حظر الانتشار النووى قد وقعت على هذه الاتفاقية بينما إسرائيل لم توقع عليها، وتمتلك بالفعل حسب مصادر عديدة وموثوقة قرابة تسعين قنبلة نووية ولديها مخزون من البلوتنيوم يكفى لصنع مائتين أخريين. أى إن الذى يملك قنابل نووية لا يلتزم بحكم الاتفاقية ويدعى الدفاع عن نفسه فى مواجهة دولة انضمت بالفعل إلى الاتفاقية ولم يثبت أنها تمتلك سلاحا نوويا أو تسعى لتطويره.
الخلاف حول نتائج الحرب الأمريكية الإسرائيلية على إيران
وتتوه الحقائق فيما يتعلق بنتائج حرب الاثنى عشر يوما التى شنتها إسرائيل والولايات المتحدة على إيران. الرئيس الأمريكى يقطع بأن غارات الطائرات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية وخصوصا فى فوردو قد استأصلت قدرة إيران حتى على تخصيب اليورانيوم، ولذلك لم يعد هذا البرنامج ذا موضوع، وبالتالى لن تتطرق له محادثات مباشرة دعا إلى إجرائها مع الحكومة الإيرانية هذا الأسبوع، بينما لم تستبعد أجهزة استخبارات أمريكية أخرى، وخصوصا جهاز استخبارات وزارة الدفاع وشهادات مدير الوكالة بالأمم المتحدة للطاقة الذرية أن تكون المنشآت النووية الإيرانية قد تعرضت لأضرار كبيرة، ولكن أضافوا أن الغارات الأمريكية والإسرائيلية لم تقض على قدرة إيران على استعادة العمل فى منشآتها خلال شهور، بل أوضح مدير الوكالة أنه ربما كانت هناك منشآت نووية إيرانية سرية لم تتعرض لأى أضرار، فضلا عن غموض ما جرى لأربعمائة كيلو جرام من اليورانيوم المشع والمخصب بنسبة 60٪ خرج من منشأة فوردو قبل الهجوم الأمريكى بيومين.
الذى يتفق عليه الخبراء، بما فى ذلك أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية أنه لابد من الوقت قبل الحكم الصحيح والموثوق عن نتائج هذه الحرب وآثارها على العلاقات بين أطرافها. والأرجح أنه إذا كانت هذه الحرب قد أخفقت فى القضاء على قدرة إيران فى تخصيب اليورانيوم، وأن الحكومة الإيرانية يمكن أن تستمر سرا فى تنفيذ برنامج نووى سلمى تسمح به اتفاقية حظر انتشار السلاح النووى، فإذا صح ذلك، فإن الاستنتاج هو أن حرب الأيام الاثنى عشر ستكون مجرد فصل أول فى قصة النزاع حول الطاقة النووية فى الشرق الأوسط.
عالم ما بعد الرشادة فى الشرق الأوسط
لا تنتظر إسرائيل معرفة نتائج مثل هذا التحقيق، فقد أخذت تتصرف باعتبارها المنتصر فى هذه الحرب، وبدأت مع حكومة دونالد ترامب فى الولايات المتحدة تفصل فى معالم الشرق الأوسط الجديد كما تراه، تفاخر رئيس الوزراء الإسرائيلى بأن هذه الحرب، وما فعلته إسرائيل قبلها بحربها على أنصار إيران فى العالم العربى لم تغير فقط تاريخ الشرق الأوسط بل تاريخ العالم، إذ انتهت وإسرائيل حسب قوله تخلصت من أخطر سلاح حربى فى يد أخطر نظام فى العالم.
ومن أهم معالم الشرق الأوسط الجديد هو امتداد اتفاقات السلام مع إسرائيل إلى تسع دول عربية تشمل بالإضافة إلى الدول التى وقعت معها بالفعل هذه الاتفاقات ثلاث دول أخرى هى المملكة العربية السعودية وسوريا ولبنان، وعبّر القادة السعوديون عن تحفظهم على التطبيع مع إسرائيل قبل قيام دولة فلسطينية، ولا يبدو أن نشوة الانتصار التى تعم إسرائيل ستفسح المجال لقبول مثل هذا الشرط السعودى.
على أى الأحوال لا تنتظر إسرائيل موافقة عربية ولا حتى مباركة أمريكية قبل أن تواصل مشروعها فى رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط. هى ليست متسرعة فى الجلاء عن غزة بل تواصل الضغط على مواطنيها بالتجويع والحصر فى مساحة لا تتجاوز 18٪ من مساحة القطاع، وتمارس جهودا مماثلة فى الضفة الغربية، وهكذا فمخطط تهويد الأراضى المحتلة جار على قدم وساق، وليس فى نيتها الانسحاب من المناطق الخمس التى احتلتها فى لبنان ولا المساحات الواسعة التى اقتضمتها فى جنوب سوريا، وهكذا فامتداد «الاتفاقات الإبراهيمية» إلى لبنان وسوريا يعنى أيضا بقاء الاحتلال الإسرائيلى فى البلدين. بل إن الأخطر من ذلك هو الدرس القديم الذى كشفت عنه هذه الحرب، وهو أن إسرائيل بفضل فائض القوة الذى تتمتع به لن تسمح بتمكن أى دولة فى الشرق الأوسط من امتلاك القدرات العلمية والاقتصادية والعسكرية التى تسمح لها بمجاراة إسرائيل فى مستوى تقدمها العلمى والعسكرى والأمنى والاستخباراتى والاقتصادى، وسوف تسعى بكل الطرق لوأد احتمالات مثل هذا التطور سواء كان ذلك فى تركيا أو السعودية أو مصر أو إيران.
السلوك الإسرائيلى فى هذا الصدد يتسم بالرشادة بكل تأكيد، فنظريات المدرسة الواقعية فى العلاقات الدولية توضح بما لا يدع مجالا للشك أن غاية السياسة الخارجية لأى دولة هى تعظيم قوتها ذاتيا وبإضعاف خصومها. اعتراضها على امتلاك السعودية لبرنامج نووى سلمى مؤكد. تنافسها مع تركيا فى سوريا قائم، وهى قد لعبت بالورقة الكردية فى العراق وتلعب بها فى سوريا الآن، وليس من المستبعد أن تلجأ لذلك مع تركيا فى المستقبل، والصحف الإسرائيلية وأصدقاء إسرائيل فى الولايات المتحدة قد حذروا من مستوى تسليح القوات المسلحة المصرية. وهناك تاريخ معروف من نشاط المخابرات الإسرائيلية ضد برامج التسليح فى مصر فى ستينيات القرن الماضى.
إذا كان سلوك إسرائيل باستخدام فائض القوة الذى تتمتع به فى الشرق الأوسط هو سلوك رشيد، فهل من الرشد أن تكتفى الدول الكبرى فى الشرق الأوسط بالوقوف متفرجة على ما تقوم به إسرائيل من رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط على هواها دون أن تتحرك هذه الدول لتشكيل رادع لإسرائيل تكون أحد عناصر قوته امتلاك سلاح نووى. وباختصار شديد احتكار إسرائيل للسلاح النووى هو مبعث عدم الاستقرار فى الشرق الأوسط فى الحاضر. والتوازن النووى فى هذا الإقليم هو الذى يحقق الاستقرار فيه. أليس ذلك هو درس الحرب الباردة الأولى؟

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات