لم يعد الشرق الأوسط الجديد مجرد دعوة يطلقها مسئولون أمريكيون، ولا مجرد نبوءة تخرج عن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، ولكنه واقع يتشكل أمام أعيننا، ترسمه خطوط امتداد القوات الإسرائيلية، وتدعمه سياسيا أنشطة مخابراتها، وهكذا توسعت فى الشهور الأخيرة سيطرة إسرائيل على الأراضى العربية من غزة إلى جنوب سوريا وخمس نقاط حدودية فى جنوب لبنان، وأعلن الكنيست الإسرائيلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وواكب ذلك بل ومهد له تغير علاقات القوة فى الشرق الأوسط بالضربة التى تلقاها محور المقاومة المسلحة فى مواجهة إسرائيل فى غزة وفى لبنان وفى اليمن وبعد ذلك فى إيران.
وتتفاوت ردود الفعل العربية إزاء هذه التطورات، فهناك من يحلم بأن تؤدى المفاوضات الجارية بين الوسيطين العربيين بين حماس وإسرائيل، وبحضور ممثلين للإدارة الأمريكية، ومع تحركات دبلوماسية من خلال الأمم المتحدة، إلى الحد من التوسع الإسرائيلى، فيتم الوصول إلى نهاية للحرب فى غزة تفتح الباب لإعادة تعميرها وإنقاذ مواطنيها من خطر التجويع والعدوان المسلح الإسرائيلى ويعلق هذا الفريق من الحكومات العربية أمله أن تنجح الجهود الدبلوماسية من خلال الأمم المتحدة فى سبتمبر من هذا العام بتبنى قرار أممى يدعو للاعتراف بدولة فلسطينية، يمكن مع بعض الضغوط الدولية أن يتيح تحقيق السلام فى الشرق الأوسط على أساس حل الدولتين، وربما ترحب الإدارة الأمريكية أو على الأقل دوائر عديدة فى الولايات المتحدة بهذا التطور على أساس أنه يمهد لتطبيع كامل فى العلاقات بين إسرائيل وكافة الدول العربية وفى مقدمتها المملكة العربية السعودية.
• • •
المخطط الإسرائيلى بين التصريحات الدبلوماسية والعمل على الأرض
احتمال أن توقف هذه الجهود مخطط إسرائيل لشرق أوسط جديد تكشف عنه فضلا عن تصريحات إسرائيلية عديدة حول حدود دولة الميعاد وأفعال إسرائيل على الأرض، ومؤتمرات تعقد فيها تبحث فيما يجب عمله فى غزة والضفة فضلا عما تفصح عنه تحركات الدبلوماسية الأمريكية تجاه كل هذه القضايا. فمن حيث الأفعال على الأرض قامت القوات الإسرائيلية بتسوية مناطق واسعة فى غزة بالأرض وخصوصا فى مدينة رفح على الحدود مع مصر، ودمرت ٧٠٪ من المبانى فيها، وتخطط لإقامة مدينة خيام فى رفح تستوعب مئات الآلاف من سكان غزة تمهيدا لتهجيرهم. وتقول المصادر الإسرائيلية أنها اتصلت بحكومات ليبيا وإثيوبيا وإندونيسيا لقبول هجرة الفلسطينيين إليها، وتأمل أن تساعدها الولايات المتحدة فى ذلك. صحيح أن القيادات العسكرية فى إسرائيل تتحفظ على هذه الخطة، بسبب عبء تأمينها، ولكننا نعرف أنه فى إسرائيل، المستوى السياسى الذى اقترح هذه الخطة من خلال وزير الدفاع الذى جاء به نتنياهو هو الذى له اليد العليا فى هذه الأمور. ووفقا لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية عقدت الأحزاب اليمينية فى الحكومة الإسرائيلية مؤتمرا فى الكنيست يوم الثلاثاء الماضى عنوانه: «ريفييرا غزة من الرؤية إلى الواقع» ناقش تخطيطا للقطاع يضم مدينتين منفصلتين، وحيا سياحيا بفنادق تطل على البحر، ومنطقة زراعية وأخرى صناعية. وواكب وزراء يمنيون آخرون فى الحكومة هذا الحماس لمستقبل غزة فنشرت جيلا جاملييل وزيرة العلوم والتكنولوجيا فيلما قصيرا بمساعدة الذكاء الاصطناعى يظهر فيه من يشبه إيلون ماسك وهو يتناول خبزا بالحمص، وتماثيل ذهبية لدونالد ترامب، مصحوبة بأغنية غزة ترامب، ولا يظهر فى هذا الفيلم أى فلسطينى، وصرح أميشاى إلياهو الوزير اليمينى الآخر المسئول عن التراث يوم الخميس الماضى بأن إسرائيل تسابق الزمن لتصفية غزة من سكانها، وهو نفس الوزير الذى كان قد اقترح منذ شهور عديدة أن تستخدم إسرائيل قنبلة نووية للخلاص من سكان غزة..
إسرائيل خطر على دول أخرى فى الشرق الأوسط
لا تقتصر مخططات إسرائيل على الأراضى الفلسطينية. نظرية الردع الإسرائيلية تتصور التهديد لإسرائيل من خارج الأراضى الفلسطينية، وقد يشمل كل بلاد الشرق الأوسط بحكم التعاطف المتصور بين أغلبية سكانه المسلمين والفلسطينيين، وهو التعاطف الذى عبرت عنه حكومات كل تلك الدول، ولذلك تسعى إسرائيل أن تكون أقوى الدول عسكريا فى الشرق الأوسط، وتعزز ذلك من خلال تفوقها العلمى وعلاقتها الوثيقة بالولايات المتحدة الأمريكية، والتى وإن دخلت فى مرحلة هبوط نفوذها فى كافة أقاليم العالم الأخرى، إلا أنها بحكم انشغال القوتين المتنافستين لها خارج هذا الإقليم، فهى تتصرف بالفعل باعتبارها القطب العالمى الأوحد فيه. ولذلك يضع المخططون الاستراتيجيون الإسرائيليون فى حساباتهم الحيلولة دون أن تصبح أى دولة فى الشرق الأوسط قادرة على منافسة احتكار بلادهم للسلاح النووى، أو الصواريخ العابرة للقارات، أو حتى السلاح التقليدى الذى يمكنها من الصمود فى مواجهة هجوم إسرائيلى.
الشواهد على القلق من ظهور هذه القوة المنافسة عديدة، منها تصديها لبرنامج الصواريخ المصرى فى الستينيات، وتدميرها للمفاعل النووى العراقى فى يوليو ١٩٨٠، وهجومها، بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية على إيران فى حرب الاثنى عشر يوما، وحتى المملكة العربية السعودية اعتبرتها إسرائيل قوة إقليمية غير مأمونة، ولذلك قاومت تسلحها بطائرات الإيواكس المتقدمة على عهد الرئيس رونالد ريجان، وتحفظت على مساعدة الولايات المتحدة لها فى تطوير برنامج نووى سلمى، طبعا فضلا على أن أحلام القادة الإسرائيليين بامتداد سيطرتهم الإقليمية إلى كل أرض الميعاد تدخل فيه أيضا أراضى المملكة. كما تتنافس إسرائيل مع تركيا داخل سوريا، وحتى مصر التى أبرمت معها إسرائيل معاهدة سلام لم تنج من إعراب مسئولين إسرائيليين وأصدقائهم فى الولايات المتحدة عن قلقهم من نمو إمكانات القوات المسلحة المصرية.
أفكار المواجهة فى الوطن العربى
على الرغم من وضوح الخطر الذى تمثله إسرائيل على أمن واستقرار كل شعوب الشرق الأوسط، إلا أننا لا نكاد نرى تصورا لكيفية الاستجابة لهذا الخطر. الإحساس بضرورة وجود هذا التصور بدأ يجد طريقه إلى بعض الاجتهادات العربية خلال الأسابيع الأخيرة. من حسن الحظ أن الأصوات الداعية للتطبيع مع إسرائيل كسبيل للسلام فى إقليمنا قد خفتت إن لم تكن قد اختفت بعد أن برهن التدخل الإسرائيلى فى إقليم السويداء فى سوريا بل وقصف وزارة الدفاع السورية فى دمشق على أن إسرائيل لا يهمها السلام بقدر ما تهمها السيطرة من خلال إضعاف كل جيرانها بتغذية جذور الانقسامات العرقية بينها، وعلى زيف الرهان بأن السلام مع إسرائيل هو الطريق للحد من طموحاتها التوسعية.
ولكن هذه الأفكار الأولى فى كيفية التصدى للعدوانية الإسرائيلية إما أنها تعول على تطور داخلى فى إسرائيل يصعد فيه معسكر السلام ويتخلى عن السيطرة الإقليمية كضمان لأمن إسرائيل مستعيضا عنها بعلاقات تعاونية مع كل دول الإقليم تقوم على الاحترام المتبادل لحقوق كل هذه الدول فى الاستقلال ووحدة الأراضى، وهو «أمر غير محتمل فى المدى القصير على الأقل كما توحى بذلك استطلاعات الرأى فى إسرائيل» أو أنها تقصر البديل المقترح على الدول العربية. الدكتور حسن نافعة يتبنى التصور الأول، وطرح السفير القدير رمزى عز الدين البديل الثانى مميزا بين نظام أمنى وبنية أمنية، ويقترح ترتيبات أمنية متدرجة بين الدول العربية يمكن أن تصل فيما بعد إلى نظام أمنى. ويميل كاتب هذه الورقة إلى فكرة الترتيبات الأمنية التى يمكن أن تفضى قريبا إلى نظام أمنى يشكل تحالفا عسكريا ولكن تكون أعمدته الأولى دولا أربع هى الأكثر استقرارا فى إقليم الشرق الأوسط وهى المعنية أكثر من غيرها بخطر فائض القوة الإسرائيلى على أمنها وأمن كل دول الإقليم، كما أنها هى القوة العسكرية الأكبر فيه.
والسبب فى توسيع دائرة هذه الترتيبات الأمنية المقترحة هو أن الدول العربية وحدها قد لا تمثل رادعا عسكريا فى مواجهة إسرائيل، ولكن هذه الدول الأربع بما تملكه معا من قدرات علمية وعسكرية وصناعية ومالية يمكن أن تشكل بتعاونها مثل هذا الرادع. فضلا على أن التعاون المتدرج فيما بينها يمكن أن يكون قاطرة تجذب لها دولا أخرى على امتداد الإقليم وخصوصا فى المشرق العربى ودول الخليج. مثل هذا الترتيب الأمنى يقوم على مبادئ أساسية فى مقدمتها احترام حق كل الشعوب فى تقرير المصير والسيادة على أراضيها وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى ورفض احتلال الأراضى بالقوة والاستعداد للتعاون مع كل الدول التى تؤمن بهذه المبادئ. بطبيعة الحال هناك مخاوف وشكوك وأسباب للتوتر فيما بين هذه الدول، ولكن كل أسباب الخلاف فيما بينها لا تجعل من أى منها خطرا على الأمن الإقليمى للدول الأخرى. على أن مثل هذه الترتيبات لا يمكن أن تنجح إذا ما قدر لها أن تلقى بعض الاستجابة ممن بأيديهم صنع القرار دون أن تقوم كل دول الإقليم بترتيب بيتها من الداخل ومعالجة أسباب الانقسامات الداخلية التى توفر للاستخبارات الإسرائيلية فرصة النفاذ لتفكيكها على نحو ما فعلت سابقا فى السودان والعراق، وعلى نحو ما تسعى لعمله الآن فى سوريا.