تأتى زيارة السيد لوونج كوونج، رئيس جمهورية فيتنام الاشتراكية، لمصر الأسبوع الماضى فى وقتها تمامًا لنا فى الوطن العربى، وفى مصر خصوصًا، نظرًا لأن قصة الشعب الفيتنامى حافلة بالدروس. فكما يواجه العرب فى الوقت الحاضر تحدى امتداد السيطرة الإسرائيلية، وبمساندة الولايات المتحدة، إلى أجزاء واسعة من المشرق العربى، ومخططات لتمزيق الدول العربية على أسس طائفية، فقد عرف الفيتناميون على امتداد تاريخهم الحديث تعاقب إمبراطوريات استعمارية، ونجحوا فى التخلص من التواجد العسكرى لكل هذه الإمبراطوريات. وبعد استكمالهم تحرير بلادهم من الاحتلال الأجنبى فى عام ١٩٧٥، واجهوا أوضاعًا اقتصادية صعبة، ولكنهم بفضل سياسات اقتصادية واقعية أحرزوا نجاحات مبهرة فى تخفيض الفقر ورفع معدلات النمو، بحيث أصبحت هذه السياسات مصدر إلهام لكثير من الدول التى عرفت ظروفًا أقل قسوة مما عرفه الفيتناميون، ولكنها لم تصل إلى نفس الدرجة من النجاح.
إمبراطوريتان استعماريتان تلقيان هزيمة عسكرية على أرض فيتنام
جدير بنا أن نذكر فى الوطن العربى أن شعب فيتنام، فى تاريخه الحديث، قد تمكن من إلحاق الهزيمة العسكرية بإمبراطوريتين استعماريتين: الأولى وهى الإمبراطورية الفرنسية التى كانت فى طريقها إلى الأفول، والثانية هى الولايات المتحدة الأمريكية، الإمبراطورية الاستعمارية البازغة بعد الحرب العالمية الثانية، والتى حاولت الحفاظ على جنوب فيتنام فى دائرة نفوذها، وخوفًا من امتداد نفوذ الحزب الشيوعى الصينى إليها. أرسلت الولايات المتحدة فى البداية مئات، ثم آلافًا، من المستشارين العسكريين للحكومة العميلة فى جنوب فيتنام، وسعت لبناء جيش فى الجنوب يدين لهذه الحكومة بالولاء. وأمام اتساع التعاطف من أغلبية المواطنين، خصوصًا فى الريف ومن فقراء المدن، مع جبهة التحرير الوطنى، ألحقت الولايات المتحدة جنودها بهؤلاء المستشارين، ثم زادت، فى ظل الرئيس ليندون جونسون (١٩٦٣-١٩٦٨)، من أعداد هؤلاء الجنود حتى وصلوا إلى نصف مليون فى بداية سبعينيات القرن الماضى، ويعاونهم ٦٠٠,٠٠٠ جندى من الدول الحليفة للولايات المتحدة فى شرق آسيا.
وهكذا أصبحت الحرب فى فيتنام حربًا تخوضها الولايات المتحدة فى مواجهة جبهة التحرير الوطنى الفيتنامى، والتى تساندها حكومة الحزب الشيوعى فى فيتنام الشمالية، بل وصعّدت الولايات المتحدة حربها لتشمل شن غارات جوية على المدن الكبرى فى الشمال، مستخدمة كل ما جادت به تكنولوجيتها العسكرية باستثناء القنبلة النووية. وطبعا حاولت كسب ولاء المواطنين فى الجنوب باتباع ما نصح به خبراء مواجهة حروب التحرير من سياسات، ولكن فساد حكومة الجنوب وقاعدتها الاجتماعية الضيقة حكم على هذه الجهود بالفشل. وهكذا اضطرت الحكومة الأمريكية للدخول فى مفاوضات مع ممثلى جبهة التحرير، دارت فى باريس منذ سنة ١٩٦٨، وواصلها الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون مع وزير خارجيته هنرى كيسنجر، وانتهى الأمر بتوقيع اتفاق فى ١٩٧٣، ولكن هذا الاتفاق لم ينهِ الحرب، بل ختمها انسحاب القوات الأمريكية من كل جنوب فيتنام، بما فى ذلك عاصمتها سايغون فى أبريل ١٩٧٥، مما فتح الباب لإعادة توحيد فيتنام تحت قيادة حكومة الحزب الشيوعى، لتصبح هانوى عاصمة فيتنام الموحدة.
نضال جبهة تحرير فيتنام المسلح ضد القوات الأمريكية والحكومة العميلة فى سايغون كان له صدى واسع فى كل أنحاء العالم. ألهم ظهور حركة مناهضة للحرب فى الجامعات الأمريكية، ورفع الطلاب المحتجون الأوروبيون، وخصوصًا فى فرنسا وألمانيا الغربية فى ذلك الوقت، صور هوشى منه، زعيم فيتنام الشمالية، فى مظاهراتهم، تأكيدًا لتضامنهم مع الشعب الفيتنامى. وتعاطفت مع هذا النضال حكومات كثيرة فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكانت مصر، بقيادة جمال عبد الناصر، من الدول التى أعربت عن وقوفها إلى جانب الشعب الفيتنامى. ولما كانت الحرب التى شنتها إسرائيل ضد الجيوش النظامية العربية فى مصر وسوريا والأردن قد انتهت بالهزيمة، فقد سادت الدعوة بين فصائل ثورية فى الوطن العربى بأن حرب التحرير الشعبية هى السبيل لتحرير الأراضى العربية المحتلة من إسرائيل بما فيها فلسطين. وتصاعدت مقاومة هذه الفصائل من الأردن أولًا حتى مذبحة سبتمبر التى أدت إلى خروج الفصائل المسلحة الفلسطينية من الأردن فى سبتمبر ١٩٧٠، وتواصلت من لبنان حتى خروجها منها بعد الاجتياح الإسرائيلى للبنان فى يوليو ١٩٨٢، الذى أوصل القوات الإسرائيلية إلى مشارف بيروت.
تصورت تلك الفصائل أن سر نجاح المقاومة الفيتنامية هو استخدامها الأسلوب المعروف بحرب العصابات أو الحرب غير النظامية، من خلال مجموعات صغيرة تنتهى إلى إلحاق الهزيمة بالجيش العدو، وتناست أن سبب النجاح فى فيتنام، وفى الصين قبلها، وفى كوبا بعدها، هو أن المناضلين المسلحين يستندون إلى قاعدة شعبية واسعة تدرك أهدافهم على أنها أهداف مشتركة تتمثل فى تحقيق العدالة الاجتماعية بالتخلص من الاستغلال وضمان كرامة الفرد، ولذلك يلقون العون من هذه القاعدة الشعبية. لم تكن لهذه الفصائل مثل هذه القاعدة الشعبية الواسعة فى الأردن بين المواطنين الأردنيين، وبكل تأكيد لم تكن لهم هذه القاعدة الشعبية فى لبنان بتركيبته الطائفية، بل إن قادة بعض الفصائل المسلحة اللبنانية، ولها تأييدها فى المجتمع اللبنانى، تحالفت مع القوات الإسرائيلية التى اجتاحت لبنان وشاركت فى مذبحة صبرا وشاتيلا بذبح الفلسطينيين فى مخيماتهم فى بيروت. كما أن حرب التحرير الشعبية هى حرب الأغلبية ضد حكم أجنبى أو حكم أقلية، ولا يملك الفلسطينيون فى الأراضى المحتلة مثل هذه الأغلبية فى مواجهة الإسرائيليين.
ولكن السؤال الأهم فى قصة الانتصار الفيتنامى على الإمبراطوريات الاستعمارية لا يمكن اختزاله فى أسلوب المقاومة. هناك قوة إرادة القيادة الفيتنامية التى لم تتراجع فى مواجهة التفوق العسكرى والتكنولوجى لأداة الحرب الأمريكية، واستنادها لوعى المواطنين الفيتناميين واعتزازهم بهويتهم المستمرة منذ قرون، والتأييد الحازم من جانب الدول الاشتراكية فى ذلك الوقت، ومنها الاتحاد السوفيتى السابق وجمهورية الصين الشعبية، على الرغم من الخلافات الواسعة بينهما.
قصة نجاح اقتصادى
ولا تقتصر دروس فيتنام على النجاح فى إلحاق الهزيمة بإمبراطوريتين استعماريتين، ولكنها تشمل أيضًا مواجهة أوضاع اقتصادية قاسية بعد التحرير. فقد لقى مصرعه فى هذه الحرب من الفيتناميين مليونان، وعانى من الجروح ثلاثة ملايين، وشردت الحرب قرابة ١٢ مليون مواطن، خصوصًا فى الجنوب، وقاطعت الحكومات الغربية حكومة فيتنام، التى لم تعترف بها الولايات المتحدة إلا فى سنة ١٩٩٥ لحاجتها لمساعدتها فى معرفة ضحايا الحرب من الأمريكيين.
كما واجهت حكومة فيتنام الموحدة بيئة إقليمية سادها التوتر، خصوصًا فى البداية، مع الصين وحكومة الخمير الحمر فى كمبوديا. ومع سقوط النظم الاشتراكية فى شرق أوروبا فى بداية تسعينيات القرن الماضى، نفد ذلك القدر من العون الذى كانت تقدمه تلك الدول. كما لم يكن أسلوب إدارة الاقتصاد الاشتراكى فعالًا، مع التباين الواضح بين الجنوب، الذى لم يعرف التخطيط المركزى ولا الاشتراكية، والشمال الذى ساد فيه هذا الأسلوب فى ظل الحكم الشيوعى. ولذلك تقلبت أساليب إدارة هذا الاقتصاد من التخطيط والملكية العامة إلى بداية إصلاح يقلل من الإنفاق الحكومى، ويرحب بالاستثمارات الأجنبية، وبحرية التجارة، ويلغى المزارع الجماعية، ويضفى الإطار القانونى على النشاط الاقتصادى الخاص. وقد بدأ هذه الإصلاحات الواسعة أمين عام الحزب الشيوعى نجوين فان لينه فى عام ١٩٨٦، وعرفت هذه الإصلاحات تحت مسمى «دوى موى». وقد أنهت هذه الإصلاحات تثبيت الأسعار، وقللت من عدد المؤسسات المملوكة للدولة. وفى أعقاب هذه الإصلاحات زاد إنتاج الغذاء، وارتفعت العمالة فى القطاع الخاص، وتدفقت الاستثمارات الأجنبية فى قطاعات النفط والصناعات الخفيفة والسياحة.
واتبعت الحكومة سلسلة أخرى من الإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية فى ٢٠٠١، بعد موجة من المظاهرات وضعت على قمة الحزب الشيوعى نانج دوك مانه فى ٢٠٠١. وقد أدت هذه الإصلاحات إلى ارتفاع معدلات النمو، والتى كانت فى المتوسط تدور حول ٦.٣٪ سنويًا، وارتفع نصيب الصناعات التحويلية إلى ٢١٪ من الناتج القومي، وقفزت فيتنام فى دليل التنمية البشرية إلى المكانة ٩٣ فى سنة ٢٠٢٤ من بين ١٩٣ دولة، وانخفض معدل الفقر ليصل إلى ٤.٣٪ من السكان، ويتجاوز فى مصر قرابة ثلث السكان، علمًا بأن مكانة مصر فى دليل التنمية البشرية تتفوق على فيتنام بمرتبتين.
ومع ذلك، فإن هذه الإصلاحات اقترنت أيضًا بتزايد الفساد واتساع الفوارق الطبقية والإقليمية، فمعدل جينى يصل إلى ٣٦٫١٪ ويحصل عُشر السكان على ٢٨٫١٪ من الدخل القومى، مما يدعو الحزب الشيوعى الحاكم إلى التمهل فى المضى على طريق الإصلاح الاقتصادى، ويجاهد للحفاظ على وجود مؤثر للشركات المملوكة للدولة، والتى ما زالت تسيطر على ثلث الناتج المحلى الإجمالى. كما يتردد الحزب فى إعمال بعض الإصلاحات المؤسسية، ومنها مثلًا ألا تتجاوز مدة الأمين العام للحزب خمس سنوات، ومع ذلك جُددت هذه المدة ثلاث مرات لقائد الحزب الحالى نجوين فان ترونج، وتقترب هذه الأوضاع مما تعرفه الصين فى الوقت الحاضر.
هذه بعض الدروس الجديرة بالتأمل فى القصة المبهرة لشعب فيتنام.